بيت الفن
دقيقتان فقط هي مدة «الفيلم الترويجي bande d’annonce» الفيلم الفرنسي «400 ضربة» (Les 400 Coups) كفيلتان بأن تشدك إلى متابعة تفاصيل الفيلم الذي كشف في 1959 عن هوية المخرج فرانسوا تروفو، الذي تميز بتمرده على تقاليد السينما الفرنسية، محدثا بذلك ضجة عارمة، قادت السينما الفرنسية لسلوك خط ما عرف فيما بعد بـ«الموجة الجديدة» التي كان تروفو أحد روادها ومؤسسيها، وسرعان ما مدت تأثيرها في العالم أجمع.
هذا الفيلم دارت أحداثه حول الفتى «أنطوان» البالغ من العمر 14 عاما، وهو مشاغب دائم في مدرسته، يعود في نهاية كل يوم إلى حياته المنزلية المملة والكئيبة. والداه يملكان قليلا من المال، فيما هو ينام على أريكة في المطبخ.
ولكنه يقرر ذات يوم ترك المدرسة ليغوص في دوامة من الأكاذيب والسرقات، فيتم إرساله إلى إصلاحية للأحداث سرعان ما ينجح في الهروب منها.
في ذاك العام، شكل هذا الفيلم مفاجأة دورة «كان السينمائي» الـ12 التي عرضته، ليفوز عنه تروفو بجائزة أفضل مخرج، متفوقا بذلك على أسماء لامعة حضرت معه في المنافسة، مثل جورج ستيفنز ومارسيل كاموس وريتشارد فليتشر ومارغوت بيناكيراف وغيرهم، وقد توج تروفو بالجائزة في حضور عمالقة السينما الفرنسية آنذاك جان كوكتو الذي يعد رائد السينما الشعرية الفرنسية، ولوي بونويل السينمائي السريالي الذي تحالف مع مجموعة الرسامين السرياليين، لتأسيس حركة السينما السريالية.
كما شكل الفيلم مفاجأة «كان السينمائي» آنذاك، كان أيضا مفاجأة في السينما الفرنسية والعالمية، ففيه أعلن تروفو تمرده على التقاليد المتبعة سينمائيا سواء في فرنسا وأوروبا أو أميركا، حيث اعتبره النقاد واحدا من أعظم 100 فيلم في السينما العالمية، لا سيما أن تروفو سدد فيه ضربات عدة ليس لتقاليد السينما فقط، وإنما لحياته الشخصية أيضا، حيث عاش طفولة ملأى بالمعاناة والتعب، لم يكن فيها على وفاق مع زوج والدته.
آراء ناقدة
قبل تقديمه لهذا الفيلم، عرف تروفو بآرائه الناقدة لأساليب عمالقة السينما الفرنسية القديمة، وعلى رأسهم جان كوكتو وكان دائما يصفها بالجمود، وقد شكل فيلم «400 ضربة» فرصته لأن يترجم آراءه النقدية وأمنياته إلى واقع، حيث تمرد فيه على الشكل التقليدي المتأثر كثيرا بنظام الاستوديوهات في هوليوود، مستبدلا إياه بالنزول إلى الشارع الحقيقي، والتصوير في أماكن حقيقية، وضمن مؤثرات طبيعية جدا، قادرة على محاكاة الإنسان وواقع المجتمع وتقديمه كما هو من دون رتوش، وقد ساعده على ذلك الأداء العفوي الذي قدمه الفتى أنطوان في فيلم «400 ضربة»، ليبدو بكل شقاوته وتمرده على المدرسة وواقعه، بمثابة ظل شخصية تروفو نفسه، الذي طالما أوجد مساحة لهذا الظل في أفلامه الروائية الطويلة التي أنتجها حتى عام 1984، حيث رحل عن الدنيا، كما في فيلمه الكوميدي الخفيف «قبلات مسروقة» (Stolen Kisses) (1968) الذي اعتبر امتدادا لحياة «أنطوان»، حيث يعرض لنا فيه طبيعة حياته في تلك الأيام العصيبة في حياته المبكرة، وفشله في الارتباط بالفتاة التي يحب، معبرا بذلك عن إحساسه المتفاقم كشخص غير مرغوب فيه، ما يدفعه للالتحاق بالجيش والذي سرعان ما يسرحه، لعدم ملاءته الذهنية، لانشغالاته الدائمة بقراءة الروايات، وقد اتفق النقاد على أن هذا الفيلم يشكل إسقاطا صريحا على حياة تروفو نفسها.
قطب أساسي
عبقرية تروفو لم تتجل في «400 ضربة» فقط، وإنما برزت في مجموعة أفلامه التي بلغ عددها نحو 28 فيلما، 6 منها من فئة الروائي القصير، ومن خلالها استطاع أن يترجم نظريات «الموجة الجديدة» التي شكل أحد أقطابها إلى جانب جان لوك جودار وجاك ريفيه وكلود شابرول، صديقه الحميم أندريه بازان، فهناك فيلمه «حورية المسيسيبي» (Mississipi Mermaid) (1969) الذي يقدم فيه نوعا من إشكالية العلاقات، حيث تلعب الرسائل دورها في إلهاب العلاقة العاطفية، ليتحقق اللقاء الأول بين عاشقين ألهبت عاطفتاهما المراسلات، وقد لعب بطولة هذا الفيلم كاترين دونوف وجان بول بلموندو. واستطاع أن يحقق نجاحا جماهيريا كاسحا.
في حين تجلت أزمات الذات الشخصية في علاقة الحب الغريبة التي استعرضها تروفو في فيلمه «جول وجيم» (Jules & Jim) (1962)، الذي يدور حول علاقة مضطربة بين رجلين من جهة وفتاة واحدة، وكان هذا الفيلم قد بني أصلا على رواية واقعية كتبها فرانز هيسيل على شكل سيرة ذاتية، واستطاع تروفو بهذا الفيلم تحقيق حلمه بتحويل هذه الرواية إلى مشاهد سينمائية، ليؤسس من خلاله لأسلوب جديد في السينما من حيث استخدامه للكاميرا المهتزة واللقطات الثابتة، وعملية مزج الصورة وإعتامها في بعض الأحيان، وقد انعكس هذا الأسلوب في العديد من أفلامه اللاحقة.
وبالحديث عن «جيل وجيم»، لابد أن نذكر أن حالة «الموجة الجديدة» تصاعدت مع هبوب عواصف اليسار الفرنسي وتنامي قوته في تلك الفترة، وقد ساعد ذلك تروفو ورفاقه على تأسيس تيار «الموجة الجديدة» معتمدين في ذلك على قاعدة أن السينما تتحدث عن أشياء معروفة وليس عن أشياء غير معروفة، وهي القاعدة التي طالما سار عليها جان لوك غودار، ووافقه فيها تروفو الذي كان أحد المساهمين في تأسيس ما عرف في بداية الخمسينيات بـ«دفاتر السينما» التي شكلت المدونة التاريخية للسينما الفرنسية، واجتذبت إليها العمالقة الذين خلخلوا بما قدموه من أعمال أسس السينما العالمية.
جلد ناعم
لم يكن تروفو مخرجا فقط، وإنما عمل أيضا ناقدا سينمائيا لاذعا ومحررا صحافيا طالما تجنبت إدارة مهرجان كان السينمائي دعوته، لما تميز به نقده من الحدة، وقد عبر عن حالته هذه، بحسب اعتقاد الكثير من النقاد، من خلال فيلمه «الجلد الناعم» (The Soft Skin) (1964) الذي يتناول فيه علاقة عرضية بين كاتب معروف وفتاة شابة يلتقي بها في إحدى ندواته، ويدمنها لدرجة أنه يحاول التخلي عن حياته السابقة لأجلها، حيث عكس هذا الفيلم طبيعة ذكريات وتجارب تروفو الشخصية التي استفاد منها في عمله السينمائي.
وبرغم ما حظي به «الجلد الناعم» من إشادة، إلا أن ضربة تروفو الاستثنائية تمثلت في فيلمه «451 فهرنهايت» (Fahrenheit 451) الذي قدمه في 1966، حيث شكل انعطافة في أسلوبه السينمائي، من خلال سلوكه للخيال العلمي، وتقديمه للحوار باللغة الإنجليزية، إلى جانب الألوان، جمالية هذا الفيلم تكمن في إثارة تروفو لأزمة الثقافة، من خلال استعراضه لمجزرة بحق الكتب التي يتم إعدامها حرقا، على أيدي مجموعة من رجال الإطفاء الذين يعملون في ظل حكومة ديكتاتورية تخشى أن يتحلى الشعب بروح الفكر، ليعكس تروفو من خلال الفيلم فرضيته بأن «للكتاب حياة، قد تنتهي على يد جاهل». نجاح هذا الفيلم تكرس بعد خروجه من حدود فرنسا ليعرض في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، ليؤسس لقاعدة جماهيرية عريضة باتت تتابع أفلام تروفو.
حظر تجوال
ما حققه «451 فهرنهايت» من نجاح، كان كفيلا بأن يقود تروفو لتقديم أفلام للسينما العالمية، كما في فيلمه «نهار من أجل الليل» ( (1973حيث قادت فكرة الفيلم وحبكته تروفو نحو منصة الأوسكار ليتوج بجائزة أفضل فيلم أجنبي، ليعود تروفو إلى ذات المنصة بعد خمس سنوات من خلال فيلمه «المترو الأخير» (Le dernier métro) (1980)، وهو الفيلم الذي نال 10 جوائز سيزار الفرنسية، ففي هذا الفيلم يعود تروفو إلى العام 1942 عندما كانت فرنسا تقبع تحت حكم النازيين الذين فرضوا على مدنها حظرا للتجوال يبدأ في الساعة 11 ليلا، الأمر الذي كان يجبر الجميع على عدم تفويت رحلات المترو الأخيرة، تجنبا لدخولهم في المحظور، وإلى جانب ذلك يستعرض تروفو فيه أزمة المسرح الفرنسي، من خلال زوجين (كاترين دينوف وجيرار ديبارديو) يعملان في المسرح، ولكنه في الوقت نفسه يتطرق إلى العلاقة الإنسانية عبر إدخال الزوجة في علاقة ما مع أحد الممثلين العاملين معها في المسرح، ليشرح لنا من خلال هذه العلاقة طبيعة الخوف من سيطرة النازية، وما يمكن أن يصاحب هذه العلاقات من اضطرابات وتشويش، وقد سبق له أن استعرض ذلك في فيلمه «الرجل الذي أحب امرأة» (1977) الذي نقف فيه أمام شبكة من العلاقات الإنسانية في حياة شخصية الفيلم الرئيسية التي يلعبها الممثل تشارليس دينير.
«أخيرا يوم الأحد» كان عنوان فيلم تروفو الأخيرة قبل رحيله في أكتوبر 1984، ومثل هذا الفيلم تحية منه لمخرجه المفضل ألفرد هيتشكوك، حيث اقتبس تروفو فيلمه هذا عن رواية أميركية تدور حول جريمة عادية ولكنها تتضمن أحداثا مثيرة لعب بطولتها النجم جان لوي ترنتيان مع فاني أردان. فرانسوا تروفو رحل عن عمر يناهز 52 عاما، ولكن برغم ذلك ظلت آثاره ونظرياته السينمائية خالدة حتى يومنا هذا.
تروفو في أرقام
10 جوائز سيزار نالها تروفو عن فيلمه «المترو الأخير»
1959 توج تروفو بجائزة أفضل مخرج في «كان السينمائي» عن فيلمه «400 ضربة»
21 هو عدد الأفلام التي أخرجها تروفو
8 أفلام مثل فيها تروفو
1962 العام الذي ترأس فيه تروفو لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي الدولي
1.5 مليون دولار ميزانية فيلم «451 فهرنهايت» إنتاج 1966
12 جائزة فاز بها «نهار من أجل الليل» من بينها أوسكار أفضل فيلم أجنبي