بيت الفن
خمسة مسرحيين من العالم كلفتهم الهيئة الدولية للمسرح بمهمة إنجاز 5 رسائل تُلقى يوم 27 مارس الجاري (المتفق عليه يوما عالميا للمسرح)، في احتفالية ضخمة تقام بالمناسبة في المقر الرئيسي لليونسكو في باريس، وتُترجم لاحقاً إلى 50 لغة، وتوزع على جميع وسائل الإعلام والاتصال في تقليد سنوي معتمد منذ العام 1961.
العرب حاضرون في هذا المنبر العالمي، من خلال الممثلة اللبنانية مايا زبيب، العضو المؤسس في “فرقة زقاق المسرحية”، إلى جانب 4 مسرحيين من القارات الأخرى كلفوا جميعهم بإعداد 5 كلمات تعكس حال المسرح في مناطق عملهم، وهم رام غوبال باجاج من الهند ممثلا آسيا والمحيط الهادي، وسيمون مكبورني من بريطانيا عن قارة أوروبا، وسابينا نيرمان من المكسيك عن الأمريكتين، وري ميكنغ عن إفريقيا من الكوت ديفوار.
الفنانة “مايا زبيب” أنجزت كلمتها بالإنجليزية، وتولى ترجمتها إلى العربية وليد دكروب وجاء فيها:
“هي لحظة من التواصل، هو لقاء لا يمكن أن يتكرر ولا يمكن وجوده في أي نشاط علماني آخر. إنها ببساطة بادرة من طرف مجموعة من الناس اختاروا أن يجتمعوا معا في المكان والزمان نفسيهما للمساهمة في تجربة مشتركة. إنها دعوة لأفراد كي يشكلوا مجموعة، ويتبادلوا الأفكار، ويتصوروا طرق تقسيم عبء الأفعال الضرورية … كي يستعيدوا ارتباطهم الإنساني رويدا رويدا، ويجدوا أوجه التشابه بينهم. إنه المكان الذي يمكن فيه لقصة معينة أن ترسم خطوط العالمية … هنا يكمن سحر المسرح حيث يستعيد التمثيل خصائصه القديمة.
في ظل ثقافة الخوف من الآخر المستشرية عالميا، والعزلة والوحدة، يصبح تواجدنا معا هنا والآن، فعلا من المحبة. أن تبتعد عن الإشباع الفوري والانغماس الذاتي في مجتمعاتنا ذات النزعة الاستهلاكية العالية والتطور المتسارع وتقرر أن تأخذ الوقت للتفكير والتأمل مع الآخرين، فذلك فعل سياسي وهو عمل فيه ما فيه من السخاء.
كيف يمكن إعادة تصور مستقبلنا بعد سقوط الإيديولوجيات الرئيسية وبعد ثبوت فشل النظام العالمي الحر على مر العقود؟
ولما كانت السالمة والراحة هما الشاغل الأساسي لذوي الخطابات السائدة، فهل ما زال يمكننا أن نشارك في محادثات غير مريحة؟ هل يمكننا أن نخطو تجاه المناطق الخطرة دون خوف من فقدان امتيازاتنا؟
اليوم، أصبحت سرعة المعلومات أكثر أهمية من المعرفة والشعارات أكثر قيمة من الكلمات وصور الجثث أكثر تبجيلا من الجسم الإنساني الحقيقي. هنا يأتي المسرح ليس فقط ليذكرنا بأننا أناس مصنوعون من اللحم والدم وأن أجسادنا لها وزن، ولكن أيضا إيقاظ جميع حواسنا، ليقول لنا أننا لسنا بحاجة للاستيلاء والاستهلاك بما تراه أعيننا فقط.
فالمسرح يأتي ليعيد للكلمات قوتها ومعناهاـ لسرقة الخطاب من السياسيين وإعادته إلى مكانه الصحيح … إلى ساحة الأفكار والمناقشة حيث الرؤية الجماعية.
من خلال قوة القص والخيال، يمدنا المسرح بطرق جديدة لرؤية العالم ولرؤية بعضنا البعض. وهذا من شأنه أن يفتح المجال للتفكير المشترك وسط الجهل الساحق للتعصب. عندما يعود مجددا وبكل سهولة الخوف من الآخر وخطاب الكراهية وسيادة الرجل الأبيض بعد سنوات من العمل الشاق وتضحيات الماليين من الناس في جميع أنحاء العالم لمحاربة كل تلك الأمور المخزية … وعندما يطلق النار على الأولاد والبنات في عمر الزهور في الرأس ويتم سجنهم لرفضهم الامتثال للظلم والفصل العنصري … وعندما يحكم متطرفون غير متزنين بعض الدول الكبرى في العالم … وعندما تلوح في الأفق الحرب النووية كلعبة افتراضية بين رجال وصبية في السلطة … وعندما يصبح التنقل مقصورا أكثر فأكثر على عدد قليل من المختارين، في حين أن اللاجئين يموتون في البحر، في محاولة للدخول إلى الحصون العالية للأحلام الوهمية، حيث يتم بناء جدران أكثر وأكثر تكلفة، فأين يجب أن نسأل عالمنا؟ خاصة في حين أن معظم وسائل الإعلام قد باعت مبادئها. ليس لنا إلا ألفة المسرح، حيث يمكننا أن نعيد التفكير في حالتنا الإنسانية، وأن نتصور النظام العالمي الجديد بشكل جماعي، ليس فقط بالحب والرحمة ولكن أيضا بمواجهة بناءة من خلال الذكاء والمرونة والقوة.
بما أنني من منطقة عربية، فإنني أستطيع أن أتكلم عن الصعوبات التي يواجهها القانون في العمل. ولكني من جيل مسرحيين يشعرون بالامتياز لأن الجدران التي نحتاج إلى تدميرها كانت دائما جدران واضحة. وقد دفعنا هذا إلى تعلم كيفية تحويل ما هو متاح ودفع التعاون والابتكار إلى أقصى حدوده، فقد قمنا بالعمل المسرحي في الأقبية وعلى سطح المنازل وفي غرف الجلوس وفي الأزقة وفي الشوارع. وكنا نجمع جمهورا حيثما ذهبنا، في المدن والقرى وفي مخيمات اللاجئين. ولقد كانت لدينا ميزة بناء كل شيء من الصفر في بيئاتنا، وتصور طرق للتهرب من الرقابة، في حين أننا لا نزال نعبر الخطوط الحمراء ونتحدى المحظور. تواجه اليوم هذه الجدران جميع المسرحيين في العالم، حيث لم يسبق للتمويل أن يصل لهذه الندرة وأن يتحول إلى رقابة جديدة.
وهكذا، فإن لمجتمع المسرح الدولي دورا جماعيا يلعبه اليوم أكثر من أي وقت مضى لمواجهة هذه الجدران المتنامية، الملموسة وغير الملموسة. اليوم هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة ابتكار هياكلنا الاجتماعية والسياسية بصورة خلاقة وبأمانة وشجاعة لمواجهة أوجه القصور لدينا وتحمل المسؤولية تجاه العالم الذي نشارك في صنعه.
وبوصفنا صناع مسرح العالم، فإننا لا نتبع إيديولوجية أو نظاما يرتكز على معتقد واحد، ولكن نشترك في بحثنا الأزلي عن الحقيقة بجميع أشكالها وفي مساءلتنا المستمرة للوضع القائم، وفي تحدينا لأنظمة القوة القمعية، وأخيرا وليس آخرا، في نزاهتنا الإنسانية.
نحن كثيرون، نحن لا نعرف الخوف، ونحن باقون هاهنا!”