سناء عكرود سقطت في فخ/عقدة جل الإنتاجات السينمائية المغربية، التي تريد قول كل شيء في عمل واحد. زائد عقدة الأنا وفرض الوجود في الساحة الفنية…
هشام الودغيري
فيلم “قصر نظر” Myopia (“إطار فارغ” سابقا )، سيناريو، إنتاج وإخراج سناء عكرود (2019) 82 د. إنتاج خاص مغربي/ كندي. بميزانية، 260 ألف دولار.
من أهم معضلات سينمانا المغربية هو غياب سيناريو جيد، هذه الفرضية لا تعني عدم وجوده بقدر ما تفتح باب البحث عن مكامن الخلل في الحاصل منه. طبعا أتحدث هنا عن سيناريو تم إنجازه في حلة فيلم. وربما هناك سيناريوهات جيدة لم تسعفها قراءة / تغييرات المخرج لها.
مثال اليوم آخذه من شريط “قصر نظر” Myopia، الذي شدتني فيه الفكرة القوية جدا، لكن من خلال تتبع مسار السرد الفيلمي، وقفت على عدة نقاط ضعف منهجية، أفقدت تماسك السيناريو وأربكت عملية الإخراج الفني، مما جعل العمل لا يرقى لمستوى يوازي قوة الفكرة المؤسسة.
خلل كتابة السيناريو، بجانب ضعف الإخراج، ساهما بشكل كبير في ضياع تبليغ الفكرة العامة للسيناريو والتي أرادت التسطير على معاناة المهمشين بالجبال والصحاري والقفار، بلا مدرسة ولا مستشفى ولا أبسط ضروريات الحياة، من خلال قصة امرأة قروية أمازيغية تعاني من قهر وقساوة الناس والطبيعة. (أتذكر هنا المشهد جد معبر لنقل المرأة القروية المريضة بمعية زوجها على ظهر بغل وسط ثلوج قمم الجبال النائية، قصد بلوغ الطريق المعبد لنقلها عبر سيارة أجرة لأقرب مستوصف، بفيلم “الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء” لمحمد العسلي إنتاج (2004). و(بهذه المناسبة نتساءل ترى، أين إختفى محمد العسلي بعد هذه الدرة الفريدة في السينما المغربية ؟؟؟).
هنا لا بد من الإشادة بسناء عكرود “الممثلة” التي أدت دور “فاطيم” بكل حرفية وتقمص للشخصية ومصاعب معيشها. قوة شخصية سناء، وصوت الطبيعة الرهيب (أجمل نقاط الفيلم هي المشاهد الصامتة) كادا يوصلا صوت كل “فاطيم” للمشاهد والمسؤول، لكن حبكة السيناريو، ولغة الكاميرا، وتقطيع المشاهد، وقالب الإخراج عجزوا عن بلورة ذاك الصوت / الرسالة في حلة فيلم يستحق الدخول لمكتبة السينما.
في أنموذج “قصر نظر”، ضاع السيناريو بين عمق رمزية توظيفات توابع Accessoires الحياة المعيشية. أسوق مثال الغرض Objet الرئيسي (تقريبا على شاكلة تقنية MacGuffin إطار نظارات فارغ بلا زجاج” (كرمز لتصويب خلل الرؤية والجهل بلا أدوات، الذي لم يوظف كما يجب).
في مقابل عجز عملية الإخراج (تقنية “ضربة المسرح) – Le coup de théâtre في نقل هول رمزية مشهد درامي: “فقد الجنين” (كتعبير عن إجهاض إستنسال العقب/الخلف/الأمل، الذي أتى فارغا دراميا).
كلاهما، توظيف التوابع وإخراج المشاهد الرئيسية، همشا (جهلا أم عماء!؟) في بناء السيناريو، ولم يعززا بموضوع درامي موازي يكون، من داخل بنية الفكرة، دعامة لخلفية السرد. بجانب حدث المظاهرة الحقوقية، الذي لم يكن اختيارا داعما موفقا، ولم يعزز بإخراج مناسب (أتذكر مشهد المظاهرات المطلبية في الفيلم الروائي/الوثائقي “أموسو – Amussu” لنادر بوحموش إنتاج 2019. (أين اختفى أيضا هذا الطائر المهاجر بعد وثائقيه البارع ؟؟؟).
تحليل مقتضب لأهم نقاط الخلل التي اعترت الشريط
التطرق للأغراض والأشياء Objets & Choses بالسينما هو عملية جد معقدة، انطلاقا من فردية “لا شيء مجاني بالسينما”، وعملية الإحالات القرائية لها دور كبير في تأثيث مسار السرد الفيلمي، مثال “ماذا وأين” البيكيتية Samuel Beckett، التي بدون إرسائها أثناء كتابة السيناريو (ولو عن لا وعي) لن تتأتى لـ”الأشياء” و”الأغراض” الموظفة لعب دورها الأيقوني والمخيالي في بسط مسار السيناريو كحكاية وكمشهد (مثال المشهد السطحي والبئيس لـ”فاطيم” وهي تنظف المعبد اليهودي الذي لا نتعرف عليه إلا من خلال كتابة اسمه Synagogue على الصورة (في إطار بئييييس)، وحيث الشمعدانات، كأغراض objets، هي غريبة الشكل وليست كالمعروفة عند اليهود برؤوسها السبعة. هذا المعطى/الغرض الديني، الذي سيوظف لاحقا، أفقد المعنى على المشاهد، وبالتالي لم يرسخ في ذهنيته لتعزيز الحديث عنه أثناء استنطاق الشرطة لفاطيم لاحقا).
تفصيل رمز/ فكرة “إطار النظارات” وعلاقته كشيء Chose، “يحيى في زمن الفيلم ويعيش الفيلم به” (تاركوڤسكي)، لم يستغل بشكل جيد ومستفيض، حيث ظل “الإطار” جامدا/ميتا/تافها على علو رمزيته (مثلا لو كسر أو ضاع ؟!)، ودون ربط رمزيته بمسار السرد الفيلمي (مثلا تأطير المشاهد من زوايا غير مألوفة مع لمسة فنية). وذلك لعمري هو مفتاح مدخل الفيلم الذي لم تعثر عليه السيناريست/المخرجة.
“الإطار الرمز” هذا لم يستغل في لعبة السرد (السينمائي)، وكشخصية درامية قائمة بذاتها، بين ثنائية “العرض” و”التغييب”، الذي يذهب ببناء السيناريو، وفي إطار منطق بنية الحكي، لوجوب تحضير/حضور “فقيه القرية -الشيخ” (الذي لم يصور إلا ككومبارس عابر، وهو العنصر المسبب déclencheur لانطلاق الحكاية)، إلى لعب دور موازي/فاعل ومغذي للشخصية الرئيسية. لكن هذا الأمر لم تسريه السيناريست. عن وعي أو لا وعي؟! عن جهل أو تجاهل ؟! … مع الأسف في كل الحالات.
التحقير (الإرادي أو لا إرادي !؟) لـ”إطار النظارة” ولـ”فقيه القرية – الشيخ” في مقابل مركزية شخصية “فاطيم” (حتى دلالة الإسم التي تفيد “القطع” – مع الماضي، مع الجهل، مع الخنوع، مع الرضوخ، مع القهر- لم تستغل) أفقد الشريط كثيرا من الشحنات الدرامية، وهي من أولويات السرد الفيلمي والقص الروائي (منظر ضرب البائع المتجول جد جد هاوي، إخراجا وأداء، أمام موقف التحرش الجنسي الفظيع كفعل).
“السرد المخفي” بالسيناريو، اختفى فعلا. مثال فطرية وسذاجة “فاطيم” الغائبة مشهديا، التي لا نلمسها إلا عبر الحوار “المسرحي”. أو مشهد ركوب “فاطيم” على البغل وذهابهما في اتجاه عمق الصورة/الغابة بزاوية تصوير من خلفهما، الشيء الذي يفيد المغادرة والاضمحلال وليس السفر وبداية رحلة.
وعرمرم من كبوات “ميتافورية” لا متسع لجردها في هذا المجال.
تقول معادلة دولوز المشهد، بمعنى الوعي le plan, c’est-à-dire la conscience.. ولتوسيع تطبيق هذه الرؤية/التقنية السيناريستية والإخراجية (الغرض/الشيء – l’objet/chose)، أدعو لمشاهدة وإعادة مشاهدة تحفة مارتين سكورسيزي “هوغو كابري”- Hugo Cabrer إنتاج 2011، الذي ينبني على “دمية ميكانيكية” أوتوماتيكية automat كغرض objet، ورمز للعصرنة modernité المعطلة، ومن خلاله تحاك وتتشابك قصة الفيلم، في ترواح متجانس بين المكان (ساعة محطة القطار ومحل بائع الحلويات وألعاب الأطفال) والزمن (ترك آلة ومهنة التصوير السينمائي والاختباء وراء بائع حلويات ولعب أطفال ومصلح ميكانيزمات الدمى المتحركة)، وخط اللعب الساذج الطفولي بين الطفل والعجوز، من خلال محاولة إعادة إصلاح الدمية الميكانيكية وتتبع عملية إصلاح أعطابها (تذكر هنا وجوب حضور شخصية “فقيه القرية” في “ميوپيا” وتتبع حالته البصرية). ذلك بموازاة مع طرح العقدة الدرامية عند المخرج الفاشل (قصة جورج ميلييس Georges Méliès رائد الخدع السينمائية). كل هذه الحبكة السيناريستية في رقص حكائي عجائبي متناغم، بسيط القص، فرجوي الصورة وعميق الأبعاد.
طبعا ومؤكدا، فذلك من خط عبقرية الكاتب والمسرحي والسيناريست والمخرج جون لوݣان John Logan، وماااا أدراك ما جون لوݣان كاتب “ݣلادياتور” Gladiator و”عبقري” Genius وووو.
في حديث آخر :
سناء عكرود سقطت في فخ/عقدة جل الإنتاجات السينمائية المغربية، التي تريد قول كل شيء في عمل واحد. زائد عقدة الأنا وفرض الوجود في الساحة الفنية. وهي من جملة الأخطاء التي برهنت على فشل أعمال مقترفيها من خلال العديد من التجارب عند بعض المنتجات والمنتجين، وبعض الممثلات والممثلين، وأخريات وآخرون بعدة قبعات.
في حوار لموقع “العين الإخبارية” الإماراتي قالت سناء “عندما كنت ممثلة فقط، لم أجد من يعتني بي في الزوايا الأخرى مني، وعندما كنت أشاهد الأفلام التي قدمتها تحت إدارة مخرجين آخرين كنت متوترة، وكنت أشعر بنقص”… ؟؟؟!!!
ضبابية الرؤية مع نغزة نرجسية، وبين مراد الممثلة وتوق المخرجة، وبغية السيناريست وتطلعات المنتجة، جعلت من العمل كائنا هجينا، فلا هو بالشريط التلفزيوني ولا هو بالسينمائي، ولا هو بالروائي ولا بالوثائقي. أتى العمل كـ”شريط مؤسساتي” تحسيسي عن وضعية المرأة القروية المقهورة.
ولن أدخل في باب تقليد/إقتباس/محاكات السينما الإيرانية أو التركية، فذلك شأن ٱخر.
من خلال كل ما ذكرت ولم أذكر، أتى شريط “ميوپيا” فعلا معبرا عن “قصر نظر” سناء عكرود (السيناريست والمخرجة) في تقديم عمل يرقى لطرح الفكرة الواااعدة التي كانت نواة خصبة لمشروع سيناريو جيد وفيلم واعد.
مع الأسف.. والمثل العامي المغربي البليغ يقول : “جات تكحلها عماتها”.
معلومة: قام بإدارة التصوير ڤولفانغو ألفي Volfango Alfi الذي عمل معها في شريطها الأول “خنفيسة الرماد” 2015 بالإضافة لتجارب تلفزية أخرى سابقا.