الأحداث الأليمة هي وقود الكتابة الأدب الخالد يتربى في أحشاء الكارثة
النصوص الكبرى التي كتبت الفاجعة لم تكن أعمالا راسخة في تاريخ الشعر والأدب فقط، بل أثرت وغيرت في تاريخ الأدب نفسه
بيت الفن
أجمع المتدخلون في ندوة “الفاجعة بين الآداب والفنون” على أن كتابة الفاجعة مغامرة شاقة، وأن نصوص الفاجعة غالبا ما تكتب بشيء من التسرع والاستعجال. لكن النصوص الكبرى التي كتبت الفاجعة لم تكن أعمالا راسخة في تاريخ الشعر والأدب فقط، بل أثرت وغيرت في تاريخ الأدب نفسه.
وأوضح المشاركون في الندوة، التي أقامتها دار الشعر بتطوان، نهاية الأسبوع الماضي، بمدرسة الصنائع والفنون الوطنية بمدينة تطوان أن الكتابة عن الزلزال تغدو شبه متعذرة ومستحيلة، ما دام الشهود، وهم ضحايا الفاجعة، قد غادرونا إلى الأبد.
انطلق اللقاء، الذي حضره نقاد وشعراء قاربوا سؤال الأدب والفاجعة وألقوا قصائد حول كارثة زلزال الحوز، بدقيقة صمت ترحما على أرواح ضحايا الفاجعة، كما أوقد المشاركون والحاضرون شموعا وحملوا أغصان الرياحين تكريما من أجل شهداء الزلزال.
في البداية، استعرض الباحث عزالدين الشنتوف سؤال الفاجعة في تاريخ الفكر الفلسفي من خلال مداخلة بعنوان “الفاجعة ومكر الخطاب الفلسفي”، منطلقا من مشكلة الإنسان مع الشر، التي تتحدد في تراجيديته، وعلى الخصوص “في ذلك التناقض الذي يعيشه على مستوى الاعتراف به، فهو معترف به بشكل قبلي، عندما ينظر إليه من جهة الذنب والخطيئة الأصلية، وقد عملت الأساطير والنظم الرمزية على تعويض فراغاته ونقصه”.
كما انطلق المتحدث مما كتبه فولتير بعد زلزال لشبونة في القرن الثامن عشر، ومناقشته لأفكار روسو في هذا السياق، من خلال كتابة جاءت “ضد تدجين الفاجعة”، بتوصيف الشنتوف، وضد مقولة “كل شيء على ما يرام” التي لوح بها الفيلسوف الألماني ليبينتز، وهو يبحث في أصل الشر، معتبرا أن هذا العالم إنما يسير وفق مشيئة مدروسة، وهو مبني على النظام والانتظام والتوافق، وأن الأصل فيه هو الخير، كما تقتضي ذلك العناية العليا.
وتتبع الباحث المقاربات الفلسفية لمشكلة الشر مع بول ريكور وشوبنهاور ونيتشه وسواهم من الفلاسفة الذين قاربوا سؤال الفاجعة عبر تاريخ الفكر الإنساني.
واختار الباحث والأستاذ الجامعي عبدالإله الخليفي المتخصص في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية إعادة قراءة رواية “أكادير” لمحمد خيرالدين، في ورقة حملت عنوان “كتابة الزلزال.. عودة إلى أكادير محمد خيرالدين”. وانطلق الخليفي من مقولة “عنف النص”، التي تصدق على الرواية التي ألفها خيرالدين سنة 1967 “هذا الطفل الشقي الرهيب في أدب الشمال الأفريقي الناطق بالفرنسية”، بينما يبقى نص “أكادير” من أهم أعماله الأدبية إلى درجة أن باحثا مثل جان ديجو توقع منذ 1973 أن خيرالدين قد قال كل شيء في هذا العمل، على غرار ما حدث لكاتب ياسين مع رواية “نجمة”. أما “كتابة الزلزال” كما يتحدث عنها المتدخل فهي تتشكل حينما تجد الكتابة نفسها وسط الرعب والدمار.
وكان خيرالدين قد انتقل إلى أكادير بصفته موظفا في الضمان الاجتماعي مكلفا بمهمة إعداد تقرير حول الوضع الاجتماعي لمن تبقى من سكان المدينة، الذين قضوا تحت أنقاض زلزال مدمر أتى على المدينة كلها تقريبا. وقد استغرقت هذه المهمة مدة سنتين ما بين 1961 و1963، بينما تبين لخيرالدين أنه يستحيل القيام بهذه المهمة. بل إن الكاتب سيعلن فشله في إعداد التقرير، وفشله في كتابة الزلزال، وفي الإحاطة بفاجعته، إقرارا منه بأن الفاجعة تتحدى الخيال الإنساني دائما.
ويفرق الخليفي بين ما يسميه “أدب الفشل” وبين “فشل الأدب”. وقد انعكست آثار الفاجعة على كتابة خيرالدين في “أكادير”، من خلال غياب علامات الترقيم في بداية الرواية ونهايتها، ومن خلال شكل الطباعة ما بين أحرف صغيرة وأخرى كبيرة، وأسطر مائلة، وغير ذلك. ما حدا به إلى أن يقدم لنا “نصا شعريا متعدد الأجزاء تتخلله، مثل أسوار المدينة المنكوبة، نتوءات وشقوق وفجوات يتسلل من خلالها الضوء الشعري”.
ضمن هذه التراجيديا الزلزالية والقيامية، ينبهنا الباحث إلى كلمة كثيرا ما استوقفت خيرالدين في الرواية، وهي كلمة “موت”، التي شكلت مصدر رعب بالنسبة إلى الكاتب، ما دام الكتاب يخافون من الكلمات ويتهيّبونها إذ يستعملونها، لأنهم في الأخير إنما يواجهون الكلمات ويتعاملون معها، ويواجهون حدتها وقسوتها في كتابة الفاجعة. وهو ما عبر عنه خيرالدين في تجربته مع هذه الرواية بقوله “كنت أحاول الهروب من كلمة الموت”.
من جهته، يرى الباحث والمترجم محمد آيت لعميم أن الكتابة والخراب قد “تلازما منذ عهود سحيقة إلى اليوم، وأن النصوص الدينية رسخت في الأذهان أن النهاية ستكون قيامية مرعبة”، لأجل ذلك، فإن الكارثة “آتية من مستقبل مجهول، ينطوي على نهاية غير محددة في الزمن، ولهذا يتفاعل الناجون بالتأمل في هذا العالم المحفوف بالمخاطر وباللايقين والشك في طبيعة الوجود الهش”.
ويضيف المتدخل أن الأحداث الأليمة التي تخلف جراحا غائرة في المتخيل الجمعي، كانت دائما هي وقود الكتابة، فلولا الطوفان لما كانت “ملحمة غلغامش” التي دار موضوعها المركزي حول البحث عن نبتة الخلود، ولولا “طروادة” لما وصلتنا التحفة الخالدة “الإلياذة والأوديسة”، فكأن الأدب الخالد يتربى في أحشاء الكارثة.
وتطرق الناقد إلى مجموعة من النصوص الروائية التي تناولت الكوارث مثل “ما بعد الزلزال” لموراكامي، و”الأيام الأخيرة لبوميي” لإدوارد ليتون، و”أجساد مختلطة” لمارفان فيكتور، و”السبت الأسود” لجاكلين ميغفين التي تناولت التسونامي في الهند، كما عرج على نصوص من التراث العربي التي تناولت مثل هذه الكوارث، فنبه إلى كتاب أسامة بن منقذ “كتاب المنازل والديار” الذي خصصه لزلزال حصن شيزر، وجمع فيه ما يبرد اللوعة ويسكن الروعة، قائلا “ولقد وقفت عليها بعدما أصابها الزلزال، فما عرفت داري ولا دور والدي وإخوتي وأعمامي”.
وتوقف أيضا لدى مرثية ابن الرومي للبصرة لما دمرها الزنج وخربوها وأذلوا أهلها. كما استحضر نص حافظ إبراهيم في رثاء مدينة مسينا الإيطالية لما ضربها زلزال مدمر. وأشار أيضا إلى ديوان السياب “المعبد الغريق” وهو نص تأثر فيه السياب بغرق معبد بوذي إثر انفجار بركان دمر المدينة وأغرقها في الحمم. كما استحضر قصيدة فولتير حول زلزال لشبونة، مرورا بالدور الذي لعبته السينما في رصد الكوارث وتوثيقها وتقديمها من خلال تنوير جوانب إنسانية قد لا تظهر في نشرات الأخبار والتقارير.
ولم يفوت الناقد الوقوف على دور الفن التشكيلي في ترجمة الانفعالات الإنسانية بصريا عبر لوحات غويا وبيكاسو حول الحرب الأهلية أو الطاعون الأسود، منبها إلى أن الكوارث لم تكن موضوعا فقط لهذه الآداب والفنون، بل إنها أثرت على الاختيارات الجمالية وشكل التناول، حيث اصطبغت اللوحات بألوان قاتمة، وحاكت النصوص أوضاع الكارثة، عبر الهذيانات وتشظي النصوص وتفاقمها مناظرة ما تخلفه الكوارث من فوضى ودمار ومحو ومحق.
وأشار إلى أن خطاب النهايات الذي تواتر في حقول عدة هو تأثير بليغ لخطاب الكارثة في الفكر. وختم لعميم مداخلته بأن الآداب والفنون تشهد بالتحديد على استحالة الشهادة في مواجهة الحدث الكارثي، لأن الكارثة هي موت الشاهد، إلا أن الكتابة عما بعد الكارثة هي واجب الذاكرة لرصد مجموع الانقلابات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تسببها الكوارث.
وما بين ورقة نقدية وأخرى، شارك الشاعران المغربيان إدريس الملياني ومحمد بشكار بقصائد عن الزلزال، حيث استهل الملياني نصوصه بقراءة قصيدة “رقصة الأطلس”، وقرأ بشكار قصيدة أهداها لشهداء زلزال الحوز.