بورخيس

الناقد المغربي الشريف آيت البشير يغوص في عوالم بورخيس الأدبية

بيت الفن

يغوص الناقد المغربي الشريف آيت البشير في كتابه الجديد “بورخيس وسؤال الكتابة” في عوالم واحد من أكثر الكتاب إثارة وتأثيرا.

ويستقصي الباحث في كتابه، الصادر عن دار خطوط وظلال بعمان، بدقة الإمكانات التعبيرية لدى بورخيس في مجالات الفكر والقصة والشعر والترجمة، للوقوف على خارطة الذوق لدى ذلك الكاتب الشامل في الخطاب، كما في الوجود، باعتبارها شرفات تكشف عن صورته وعن وجوهه الإبداعية والجمالية في الترجمة والتفكير.

ويرى البشير أن النص الذي يكتبه بورخيس أرخبيلات معزول بعضها عن الآخر في الذهاب إلى أحقيتها في تنشق أهواء الحرية والاستقلال.

ويشير إلى أن إبداع هذا الكاتب الاستثنائي يمكن تشبيهه بـ”جزر متعالقة تصهرها الكتابة في اقتدار مهني ومهيب”، معتبرا أنها صفة لا يكون معها إلا مجال الرؤية الوامضة والمتيقظة والكاشفة عن فجوات تويجات الأصص المنفلتة في إقامتها بين كل إغماضة وإفاقة. كتابة تقوم على قوة التجسير ومتانته في رصد الهواجس والأفكار والرؤى التي يمنحها بورخيس للمتلقي.

ويقيم بورخيس نصه على مفارقية الخطاب التي تكون موهوبة لكشوفات تجعل القارئ مدينا في جنيالوجياه لتشكل مزار يكون بمثابة تساكن حساسيات لها نظرتها المستدقة إلى الأكوان.

بورخيس

تأثيرات كثيرة ساهمت في تكوين شخصية بورخيس ككاتب شامل، وهي بحسب البشير تتجلى بداية في علاقته باللغة، حين تعلم الإنجليزية وأتقنها معتبرا إياها «لغة القراءة» و”لغة الأدب”، أما الإسبانية فهي عنده «لغة المنزل» و”لغة الملحمة”.

علاقة الكاتب باللغة امتدت إلى تعلمه لغات أخرى كالألمانية والفرنسية رغبة منه في توسيع دائرة اطلاعه والغوص أكثر في ثقافات وآداب أخرى، وهو ما تكرس معه خاصة حين بدأ في فقدان حاسة البصر إثر إصابته بمرض وراثي في العائلة.

حياة بورخيس الخاصة أثرت بشكل لافت في أدبه، فحين وجد نفسه يعيش حياة مسكونة بالعزلة في منزل أريد له ذلك عندما سكنه أناس خضعوا للمصير ذاته هو الفقدان التاريخي للبصر أو ضعفه، وارتيادهم في الآن نفسه لعوالم الحماسة، من حيث كونهم شاركوا في الحروب بهدف الاستقلال، وهي الحروب التي أُنجزت لفائدة القارة الأميركية، من هنا تشرب روح المغامرة والرغبة في الاندفاع لاكتشاف المجهول.

تذكرنا تجربة بورخيس ولو جزئيا بتجربة الشاعر والكاتب العربي أبوالعلاء المعري، الذي كان منزله سجنه وفي نفس الوقت مجاله الواسع للتحرر والتفكير والكتابة في فسحة لا نهائية، وإن اختلفت التجربتان فإن بورخيس بدوره استفاد من تراجع حاسة بصره ليوقد بصيرته ويوجهها نحو مناطق أخرى.

ولا ينكر المؤلف تأثر الكاتب بثقافة الشرق، “الثقافة المتأملة والمستبطنة للوجود، في إذعان رواقي كبير، والمحتفية بكل الإرث الرائي/ المتشوف للنفس وللنص على حد السواء. والتي عبر تجليها في الكتابة تعترش العبارة ـ الدفقة، العبارة ـ الومضة العميقة في سفرها ونزعاتها، مقرة بالتعدد في الدليل كما نجدها في خطاب التصوف المكين في رصد الجواني”.

وكما ذكرت ماريا كوداما، زوجة بورخيس، عن عملية الكتابة عنده “إنه دائما ينتظر أن تجود عليه الآلهة بالإلهام، فلا يعتريه القلق إن تأخرت عليه الكتابة، فهو لا يضخّم المسألة، إذ كل شيء بسيط، إن أتت الكتابة يكتب، إن لم تأت لا يقلق”.

هذا قد يكشف لنا جزئيا طقوس الكتابة لكاتب اعتبر أدبه طقوسا إنسانية تفكر في الحضارات والأديان والأساطير وتفكك الإنسان انطلاقا من أبعد أسئلته الوجودية.

وقال بورخيس عن الكتابة “تبدأ الكتابة بنوع من الوحي، غير أنني أستعمل هذه الكلمة بتواضع ومن دون تطلع، هذا يعني أنني أعرف أن شيئا ما سيقع فجأة، وأن ما يأتيني غالبا بالنسبة إلى قصة هو البداية والنهاية”.

وأضاف في الحوار الذي أجراه معه الشاعر والكاتب الأرجنتيني أوزفالدو فيراري “أما في حالة القصيدة فالأمر ليس كذلك، إنها فكرة عامة جدا، أحيانا يأتيني البيت الأول، شيءٌ ما يمنح لي ثم أتدخل، ومن الممكن أن أفسد كل شيء”.

وتابع الكاتب “بالنسبة إلى القصة مثلا، أعرف البداية، أي نقطة الانطلاق، وأعرف النهاية، أي الهدف، لكن بعد ذلك عليّ أن أكتشف بوسائلي المحدودة جدا ما يحصل بين البداية والنهاية. بعد ذلك تأتي مشاكل أخرى، مثلا: هل من الملائم أن أحكي بضمير المتكلم أو بضمير الغائب؟

ليست الكتابة إلهام سابحا في المطلق ولا هي تخطيط حازم ونهائي، إنها بين هذا وذاك بالنسبة إلى بورخيس، خاصة في القصة والشعر، فبينهما وإن اختلفت جرعة الإلهام، فإن كلاهما لا يخرج عن ثنائية المشاعر والتوجيه الدقيق، توجيه تقوده ثقافة الكاتب وأفكاره، وهو الذي يعرف جيدا الفكرة التي يريدها، ولكنه يترك لنفسه متعة أن يكون الطريق إليها مجهولا.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

“إرث بورخيس” تحت مجهر الأكادميين بمكناس

تنظم كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة مولاي إسماعيل، يومي 21 و22 نونبر 2019 بمكناس...