أنيس الرافعي

“الحيوان الدائري” مجموعة قصصية جديدة لأنيس الرافعي

مشكلة من 23 قطعة حكائية مشيدة مثل آلة متقنة بالغة التعقيد

بيت الفن

يقدم أنيس الرافعي في منجزه القصصي الجديد، الموسوم بـ “الحيوان الدائري”، الصادر حديثا عن دار “أكورا” للنشر والتوزيع بطنجة، في حوالي 184 صفحة من القطع الصغير، ذاته بوصفه مؤلفا “أبوكاليبتيا” بامتياز، وباعتباره رساما ساخرا و مخبولا لأدب عوالم الواقع المرير، الذي تناهبته الفوضى والجوائح والشرور والخراب والمرض والخواء والسيناريوهات الفظيعة والانهيارات الفجائعية والفضاءات المنهارة التي لم تعد مناسبة للعيش والكائنات الشوهاء المجردة من إنسانيتها .

تم تجنيس المجموعة القصصية الجديدة، التي يهديها المؤلف إلى الزجال المغربي المرموق مراد القادري “الرجل الذي دحر وحش الوباء بابتسامة الحياة”، بـ “تخيلات قصصية”، وأغلب نصوصه في ظلالها المتبادلة، وفي عروق التخييل الخفية الممتدة في طبقاتها الداخلية، هي “هولوغرام سردي” يعتمد نفس أنظمة “الهولوغرام” أو التصوير التجسيمي، الذي هو أحد تطبيقات شعاع الليزر لإنتاج واقع افتراضي مجسم بتقنية ثلاثي الأبعاد، حيث تسلط الموجات الصادرة من الشعاع على وسيط عالي الحساسية للضوء يسمى “الهولوغراف”، فينقسم عندئذ إلى شعاعين: شعاع المصدر وشعاع الجسم، ليتقابلا على ذلك الوسيط شديد الحساسية، الذي يقوم بتسجيل التداخل بين الشعاعين. ويظهر هذا التداخل على شكل ما هو معروف فيزيقيا باسم “هدب التداخل”، وعند إضاءة هذا الوسيط المسجل عليه هدب التداخل بنفس شعاع الليزر، يتخلق في الفراغ على شكل صورة مجسمة ثلاثية الأبعاد، تتضمن مقومات العرض والارتفاع والعمق كما هو الشأن في البناء المعماري ﻟﻟ “هولوغرام السردي”.

وقد تم تطوير صناعة “الهولوغرام” واستغلاله ضمن مجالات هندسة وتصميمات العمارة الداخلية على نحو واسع النطاق، مثل عمل اللوحات الفنية الهولوغرامية، النموذج المعماري الهولوغرامي، اللوحات الجدارية المتحركة، النوافذ الهولوغرامية، والأرضيات الهولوغرامية، وجميع هذه العناصر أصبحت تظهر في الأحياز الداخلية المعمارية. حيث إن “الهولوغرام” باعتماده على اللون والضوء وزاوية الرؤية المختلفة يستمر في إبهار المشاهد، فهو دائم التأثير الحركي، وكلما تغير منظور الرؤية وجدت مؤثرات وألوان جديدة.

وعلى ظهر الغلاف الرابع ، نقرأ المقطع الدال التالي “مثلما لو كنا شخصيات إضافية التحقت متأخرة بمنطقة السعير في “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري. فئة منا سيئة الطالع، أو ربما وفيرة الحظ، كان يقع اختيار ابن القارح عليها للمكوث في برزخه إلى الأبد، بينما مضيت أنا مع الشطر الناجي الذي كتب له الالتحاق بالجزيرة الثالثة، التي يعتبرها مهندسو كل هذا الهول، مصنعا عملاقا لإعادة تدوير ورسكلة مخلفات الحياة البشرية، وأفعالها الممجوجة، وقبائحها المشينة، حيث كان يقف الواحد منا أمام سلسلة مديدة لا حد لها لنظام التركيب، ثم ينتظر مرور مساوئه، وعيوبه، ومثالبه القديمة، والمهترئة، والمتهالكة، والرثة، والمثقوبة، والصدئة. يراها مكتوبة بالسماق، على صفائح عريضة من الخشب، كالألواح المحفوظة المستودعة لمشيئاتنا، والضامة لمقاديرنا، دون زيادة، أو نقصان، أو تحريف، أو تبديل.

نراها حتى نحفظها عن ظهر قلب، وإلى أن تشع في وجوهنا على حين غفلة مساليط ضوء تغشي البصر وهو حسير خسيف، فتنطلق عندئذ ناحيتنا أسراب من الغربان مثل طيور “هتشكوك”، ثم تأكل عيوننا بلا رأفة.. عيوننا التي بعد التهامها كانت تنمو من جديد في عذاب لا ينتهي!”.

لا يتعلق الأمر بالموت . بالموت فقط . بل بشيء أكبر و أفدح من الموت نفسه، ينخرنا من الداخل العميق، وينخر  شتى ما يحيط بنا ويشملنا. شيء هائل و جبار ومؤلم وكارثي ومفجع و كابوسي جسيم و قاتم، بمقدوره أن يعيش ويستمر حتى بعد الموت والفوات المبرمين . إنه حيوان أنيس الرافعي السردي الشبيه بقاتل متسلسل مجرد من عاطفة الرحمة، والمشكل من 23 قطعة حكائية مشيدة مثل آلة متقنة بالغة التعقيد.

حيوان كان غافيا ومدفونا تحت الطبقات الرسوبية للاوعينا منذ آلاف السنين، فتم إيقاظه عن طريق الخطأ. حيوان بهويات متبدلة وبهيكل ضخم  لاحد له، يوزع أطرافه ووجوهه في كل نص قصصي، في أدنى فلذة خيال، وكسرة رعب، و وثبة فانتازيا.

حيوان دائري. دائري جدا حد البكاء، حد التراجيديا، حد الفزع المطلق، يلتف بذيله المحرشف اللانهائي حول عنق العالم، ثم يخنق أنفاسه بلا شفقة . العالم الآن يحتضر برئة مسدودة، والكاتب يحاول أن يفسر مآله الختامي. مآلنا الجماعي، الديستوبي، ما بعد النهاية الكونية إذا صح القول . الكاتب كأني به حامل كاميرا رقمية متطورة يصور الأنفاس الأخيرة والثواني الأولى بعد النهاية مباشرة.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

محمد الغزي

بيت الشعر في المغرب ينعى الشاعر والأكاديمي التونسي محمد الغزي

كان حريصا على مد صلات التواصل الشعري والإنساني بينه وبين أصدقائه شعراء المغرب… بيت الفن …