بيت الفن
غير بعيد عن منطقة تندوف اختار طاقم فيلم “حياة مجاورة للموت” للمخرج لحسن مجيد، مواقع تصوير تشكل امتدادا طبيعيا لسهول وهضاب الحمادة، فضلا عن جبال الوركزيز الصخرية، أمكنة تشكل نقطة انطلاق الفعل الدرامي، وتتمظهر فيه الشخصيات والأشياء ملتبسة بالأحداث، ليظل هذا الفضاء موجودا على امتداد الخط السردي للفيلم.
يستحضر الفيلم الذي نال إعجاب جمهور مهرجان العيون للفيلم الوثائقي حول التاريخ والثقافة والمجال الصحراوي الحساني، الذي نظمه المركز السينمائي المغربي ، بتنسيق مع نادي منتجي ومهنيي السمعي البصري والسينما بالأقاليم الجنوبية، من 20 إلى 23 دجنبر الجاري، في مقدمته وبشكل مقتضب السياق العام لاحتلال الصحراء المغربية من طرف الاستعمار الإسباني سنة 1884، مرورا بتقاسم أطرفها بين فرنسا وإسبانيا ما بين سنة 1900 و1904 و1905، مع الإشارة لأهم معارك المقاومة الصحراوية منذ 1913 إلى نضالات جيش التحرير بالجنوب، ثم توقيع معاهدة “سينترا”، وخطاب المغفور له محمد الخامس بمحاميد الغزلان، الذي حذر من خلاله الاستعمار الفرنسي من مغبة تشكيل دويلة للبدو الصحراويين تكون عاصمتها تندوف، مع الكشف ومن خلال وثائق نادرة،عن كون هذا المخطط ستتبناه اسبانيا في الستينيات من القرن الماضي، وهي الفكرة ذاتها التي تحاول الجزائر ترجمتها على أرض الواقع.
ويندرج ضمن هذا السياق، محاولة الجزائر استمالة الراحل محمد باهي لخلق تنظيم صحراوي يكون مناوئا للمغرب ويهدف إلى خلق دويلة صحراوية، وهو ما رفضه الراحل كما جاء في مذكراته، وإلى جانب سعي المخابرات العسكرية الجزائرية على ممارسة الضغوط على اللاجئين والمنفيين وقدماء المقاومين المقيمين آنذاك على التراب الجزائري لأجل مسايرة أطروحاتها، وكان من ضمنها محاولة دفعهم لتأسيس إذاعة خاصة بوهران موجهة ضد المغرب وتروج في الآن نفسه لأطروحات الانفصال، وهو ما رفضه المقاوم الراحل الحسين الخضار، الذي أجاب رجل المخابرات الجزائرية هوفمان، بالمثل المغربي الدارج “واش يمكن تعض ودنيك” إذا كان في إمكانك ذلك، “فنحن أيضا يمكننا خلق إذاعة فوق تراب بلدكم موجهة ضد بلادنا. الصحراء كنت ممن ناضلوا من أجلها وسالت دماء رفاقي فوق ترابها”.
وستتم الإشارة، أيضا، في مقدمة الفيلم إلى مبادرة الجزائر إلى تأسيس تنظيم “الرجال الزرق” سنة 1970 الذي نادى بالانفصال، ثم عاد ليتبنى الأطروحات المغربية، معلنا عنها في رسالة رسمية موجهة للأمم المتحدة سنة 1975.
كما يستحضر الفيلم في السياق ذاته، قصة تأسيس البوليساريو وملابسات العلاقة مع ليبيا والجهة المغربية التي سهلت هذا التواصل، وكيف ستكتشف الجزائر التنظيم بعد اعتقال مصطفى الوالي فوق أراضيها وتعريضه لشتى أنواع التعذيب، وكيف تحولت الحركة من مطلب الاستقلال إلى مطلب الانفصال، بالإشارة إلى ما تمخض عن المؤتمر التأسيسي ومذكرات مصطفى الوالي التي اعتبر فيها أن الأقاليم الصحراوية ظلت دائما خاضعة كباقي الأقاليم المغربية للسلطة المركزية.
ضمن هذه المقاربة يضع الفيلم المشاهد وفق المعلومة الدقيقة والوثائق الحية، بأن صلب النزاع كان ولا يزال مع النظام الجزائري، الذي هيأ لبناء المخيمات سنة 1974 بتجميع رعاة الصحراء في تندوف، لينتقل اعتمادا على الدعم اللوجستيكي لجبهة البوليساريو في سن سياسة التهجير القصري والاختطافات منذ قيام المسيرة الخضراء وإلى نهاية الثمانينيات، التي عمت مختلف الأقاليم الجنوبية لأجل تشكيل دويلة، مع إجبار النساء على الزواج القسري ومطالبتهم بالولادة المستمرة في إطار سياسة التكاثر لتكوين شعب ودولة كما كانت تروج له الجبهة.
هذه المعطيات، استحضرها الفيلم على لسان مجموعة من الحالات وعرضها عبر مشاهد تمثيلية، وفق بناء درامي، تناول تجربة الاختطافات الفردية والجماعية، ثم الاعتقالات وما تبعها من تعذيب وأعمال شاقة أفضت إلى وفاة العديد من المدنين والعسكريين من أبناء الأقاليم الجنوبية من واد نون إلى الساقية الحمراء ووادي الذهب.
وصول أوضاع حقوق إنسان في أسوأ حالاتها، ستؤدي إلى انفجار انتفاضة 1988 التي أشعلت شرارتها النساء، خاصة حين صار السجانون يرفضون تعذيب وقتل إخوتهم وأبناء عمومتهم بالسجون، وهو ما سيعترف به محمد عبد العزيز بنفسه وفق وثيقة حية للجبهة حول أوضاع حقوق الانسان بمخيمات تندوف.
معاناة دفعت بالبعض منهم إلى تدبير عملية الهروب كل بطريقته، شكلت بالنسبة لهم رحلة عذاب هروبا من عذاب أبدي، في صحراء يصعب عبورها، العطش الجوع الألغام، وعورة التضاريس، تحدوهم رغبة لقاء أهل هنا في الوطن ويتألمون من لوعة فراق أحبة لهم ها هناك في المخيمات.
فصول هذه التجربة لنصف قرن من النزاع المفتعل تقود صانعي الفيلم إلى طرح سؤال في نهاية الفيلم ما هو الحل؟ ليشيروا إلى الطرح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ويبرزوا بالملموس أن جبهة البوليساريو تفتقد إلى استقلالية القرار، الذي يتحكم فيه النظام الجزائري، وأن هذا الأخير هو المعني بفض النزاع.
وعليه فإن رسالة الفيلم موجهة بالأساس، للرأي العام الوطني، خاصة الشباب المغاربة سواء داخل الوطن أو كانوا بمخيمات تندوف ممن لا يتوفرون على المعطيات الحقيقية حول أصل هذا النزاع، كما يسعى أيضا إلى مخاطبة الرأي العام الدولي، خاصة تنظيمات اليسار بأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ممن تأثروا بخطاب المظلومية الذي يروجه الطرف الآخر، تحت سيل من المغالطات التاريخية والسياسية، وفق خطاب يعتمد المعطيات والمعلومات الدقيقة المسندة إلى صدقية المصادر، مع الابتعاد عن الدعاية وإثارة الأحقاد.