إسراء عبدالثواب
“نحن جميعا حالات خاصة.. لم أشعر قط أنني مكتمل.. وفي الوقت نفسه منفصل عن نفسي، وحاضر في هذا العالم”، “إن أكبر معركة يجب أن يخوضها الإنسان هي معركته مع نفسه، معركة ينتصر فيها حب العدالة على شهوة الحقد”، أقوال للكاتب المسرحي الفرنسي ألبير كامو، فى ذكرى ميلاده الـ104 تلخص عصارة حكمته من الحياة، بل تركته فى مواجهة غول الإنتحار الذى وجده الملاذ الوحيد للهروب من تلك الحياة التعيسة بكل عذاباتها الممتدة.
ظل يمتهن رقصة الأرق ليعيد أبجدية الإنسانية، وسيجارته لم تفارقه، تحولت بين شفتاه إلى عاشقة معذبة مثله تريد طي العمر سريعا للاستسلام إلى السلام الأبدي، حيث لا يوجد بشر مؤلمين، ومن شدة حبه للسيجارة أطلق اسمها على قطته.
مؤلف رواية” الغريب” ناضل ليدفع عن نفسه الحقد ليظل متطهرا من الآثام، والجري وراء الملذات، كان القلق والإحساس الشديد بالغربة هي الكاميرا التي تغريه لرؤية البشر من حوله، وتحديد المعذبين مثله بعناية فائقة، ترجمتها مراسلاته الغرامية إلى حبيبته الممثلة الأسبانية ماريان، حين كتب لها غرامه فى أحد مراسلاته إليها وهو يقول :”أحب وجهكِ عندما يبدو عليه القلق، أو في أي هيئةٍ كان..أراكِ قريبًّا أيتها البديعة، على أمل لقاءنا الثاني، والذي أضحكُ كلّما تذكرته. قبلاتي وأحضاني حتى أراكِ ”
تعذب الشاب على قماشة الهوية، لترسم لوحة كبيرة من التيه في شخصيته، ولا يستطيع خلالها أن يجزم هل هو فرنسي وأم جزائري، ودفعه هذا الانقسام إلى الأدب ليعبر عن ألمه الخاص، فظهرت ميوله الإبداعية في سن صغيرة.
“الطاعون” “الغريب” و”المتمرد”.. كلها مؤلفات أبدعها كامو عبر رحلته القصيرة في الحياة، التي لم تمتد لأقصر من 46 عاما، توجته قبل موته للحصول على جائزة “نوبل” في الآداب عام 1957، وبقيمة الجائرة اشترى بيتا فخما في أحد الضواحي الفرنسية، صدر أول مؤلفاته في عام 1937 وكان كتاب بعنوان (الظهر والوجه) وكان عمره لم يتجاوز الرابعة والعشرين، ثم بعد ذلك بأقل من عام صدر كتابه (أفراح)، كما ألف كامو كتاب (الجزر) لأستاذه جان جرينييه وهو عبارة عن مجموعة مقالات فلسفية، حيث مجد فيها معلمه وقال عنه “كنت بحاجة لأن يذكرني أحد بطبيعة الإنسان الفانية، وهكذا أدين لجرينييه بالشك الذي لن ينتهي، الذي منعني من أن يصيبني بالعمى إيمان ضيق الأفق، فقد أنار له كتاب جرينييه فكرة التناقض الذي يتسم به الوجود والقلق الذي ينخر في سعادة الإنسان إزاء هذا التناقض”.
خلال مسيرته في الحياة اعتنق الشيوعية، لتتسبب في اعتقاله أكثر من مرة، وهو يدافع عن الهوية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.
ترجمت مقالاته العديدة رقته وحبه الشديد ليعم السلام على الإنسانية، حيث أدان في مقال قام بنشره القنبلة الذرية بعد إلقائها على هيروشيما بيومين اثنين فقط، وهو ذاته الذي عارض الماركسية والوجودية وجميع الاتجاهات والأفكار التي رأى أنها تقلل من أنسانيه العالم.
لم يترك المرض ألبير كامو في حياته، ولكنه هاجمة في سن الـ17 عاما، ورغم صدمته منه في الشباب، إلا أن هذا لم يمنعه من استكمال دراسته الجامعية، ومواصلة النشاط السياسي، يقول عن تأثير المرض عليه “مما لا شك فيه أن هذا المرض أضاف عوائق أخرى أكثر ثقلا وهما مما كان لدى في ذلك الوقت. إلا أنه حرر قلبي نهائيا، وباعد بيني وبين المشاكل البشرية التي كانت تملؤني دائما بإحساس البغض، لقد تمتعت بفضله بحياتي بلا حدود ولا ندم”.
هيمنت أسطورة سيزيف على رؤية ألبير كامو، التي اعتبرها رمزا لوضع الإنسان في الوجود، وسيزيف هو الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح، فيضطر إلى الصعود بها من جديد، وهكذا للأبد، ويرى كامو في سيزيف الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقدرت عليه الحياة بلا طائل، فيلجأ إلى الفرار أو التمرد الذي يلون حياة المبدع ليحافظ به على كبريائه.