نعيمة المشرقي، مسار فريد متفرد، وتجربة متلونة بتلاوين النبوغ والحضور في مجمل المحطات الفنية المغربية المعاصرة…
عبد الإله الجوهري
رحلت نعيمة المشرقي، ودعتنا المغربية الأصيلة، حلقت بعيدا الفنانة القحة الموهوبة في سماوات الله المفتوحة على الخلود. رحيل خلف في نفوس عشاق فنها، ومن يعرفها من الأصدقاء الكثير من الحزن والأسى، أسى لم أجد لمقاومته غير ورقة كتبتها، كشهادة في حق هذه الفنانة الرائعة. إليكم نصها.
كتاب الإبداع النسائي المغربي عبر مختلف مراحل التاريخ، يتميز ببهاء خاص ألوان قزحية مرسومة بعناية، ألوان الفتنة والأصالة المستمدة من تراث عميق مجيد، وإنجازات فكرية وتاريخية باهرة، لنساء تعاقبن على صنع المجد والوقوف ندا إلى جانب الرجل في تسطير صفحات المجد والخلود. من هنا مرت كنزة الأورابية وزينب النفزاوية والسيدة الحرة الشفشاونية وخناثة بنت بكار وثريا الشاوي ومليكة الفاسي.. وغيرهن من الهامات السامقات الشامخات.
زمن الخلق الوطني الحالي، ازداد قوة وغواية، بأسماء نسائية فنية وازنة، أسماء كان لها فضل السبق في فتح كتاب الفن والتضحية، لكي تقف المرأة المغربية على الخشبة أمام ووراء الكاميرا، نساء اخترن طريق الفن الصعب الشائك، ومواجهة اكراهات مجتمع محافظ، وممارسة مهنة كان ينظر لها إلى زمن قريب، كمهنة دخيلة بعيدة عن دائرة الحشمة والوقار، مهنة لا تمارس عادة إلا من طرف النساء اللواتي اخترن طريق الغواية “الآثمة الخاطئة”. هنا نرفع القبعة عاليا، لنساء مغربيات معروفات، وأخريات غير معلومات، نساء أعطين من أعصابهن وراحتهن وسمعتهن، التي كانت رياح الجهل والتخلف تتلاعب بها، نساء شريفات قادرات، نشير إلى أسماء البعض منهن، على سبيل الذكر لا الحصر:
حبيبة المذكوري وصفية الزياني وآمنة رشيد وفاطمة الركراكي وخديجة جمال وليلى الشنا والشعيبية العدراوي ووفاء الهراوي وسعاد صابر وعائشة ماه ماه وطبعا نعيمة المشرقي، التي تقف إلى جانب كل الأسماء التي ذكرنا بندية عالية، لكنها تتميز عنهن بكثير من الصفات والجوانب الإنسانية التي تجعل منها أيقونة مغربية خالدة، لا كفنانة، يقام ويقعد لها، وكفى، ولكن كفاعلة جمعوية ومناضلة حقوقية حقيقية، أنذرت مسارها وما راكمته من انجازات إبداعية كنجمة مطلقة في سماء الفن الوطني لخدمة الفئات المهمشة والوقوف إلى جانب عشرات المظلومين، خاصة منهم الأسرى المغاربة الذين عانوا من ويلات عذاب الطغمة الضالة المضلة، في مخيمات الذل والهوان بتندوف، والطفولة المغتصبة المهددة دائما في طفولتها ووجودها الإنساني البريء، فلا عجب أن عينت سفيرة للنوايا الحسنة لدى اليونيسيف، وقبلها مستشارة للمرصد الوطني لحقوق الطفل ..
نعيمة المشرقي، مسار فريد متفرد، وتجربة متلونة بتلاوين النبوغ والحضور في مجمل المحطات الفنية المغربية المعاصرة، انطلاق من سنوات الستينات من القرن الماضي، تجارب مسرحية مختلفة مع سادة الخلق المسرحي المغربي، وأدوار لافتة في التمثيليات الإذاعية والأشرطة والسلسلات والمسلسلات التلفزية الدرامية والأفلام السينمائية الوطنية والدولية.
المسرح تفردت فيه أكثر من غيره، وبصمت من خلاله على مسرحيات تراثية خالدة، مسرحيات عمقت تجربتها وسمعتها، ووسعت من عطاءاتها المختلفة، مع أشهر الفرق المسرحية بالمملكة: فرقة المعمورة ومسرح بساتين ومسرح الأنس وفرقة الإذاعة والتلفزة المغربية.
التمثيليات الإذاعية تشهد لها بطول الباع وقوة المشاركة والأداء، تمثيليات عديدة متعددة، منحتها شهرة لافتة، وجوائز قيمة في مناسبات كثيرة، اذكر في هذا المقام، جائزة أحسن صوت إذاعي في مسلسل “أمينة” بمهرجان الإذاعات العربية بالقاهرة سنة 1998.
منذ ظهورها لأول مرة على شاشة التلفزيون سنة 1964 ببرامجه التثقيفية المختلفة وانتاجاته الدرامية المتباينة، ما بين السلسلات والمسلسلات والأفلام، تحيل على موهبة ربانية عصية على الفهم، فهي صاحبة القدرة على التلون والتحول، قدرة حولت بعضا من هذه الأعمال إلى محطات فنية فارقة، يكفي أن نستشهد على ذلك بالمسلسل الفرنسي “عائلة رام دام”، الذي وقفت فيه إلى جانب النجم الجزائري الراحل سيدي علي كويرات، وحققت من خلاله شهرة عارمة في فرنسا والبلدان المغاربية، و مسلسل “أولاد الحلال” لمحمد حسن الجندي المتميز بقصته المؤثرة، مسلسل ضمن لها الشهرة الكاسحة، ومسلسل “دار الضمانة” الذي راقصت (أي أبدعت) من خلال أدائها المتفرد النجم محمد مفتاح….، أعمال نفهم من خلالها قدرة هذه المرآة الفنانة الخالدة. إضافة لمسلسلات أخرى كثيرة وقعها مخرجون مغاربة نذكر منهم أساسا: فريدة بورقية وناصر لهوير ومحمد عاطفي وشكيب بنعمر ومصطفى فاكر وحسن غنجة ومحمد علي مجبود.. وغيرهم كثير من مبدعي الشاشات المغربية، مسلسلات، في الغالب الأعم اجتماعية، لعبت فيها ادوار المرأة المغربية في مختلف تجلياتها ومواقفها المتباينة، المرأة القاهرة والمقهورة والمرأة الظالمة والمظلومة والسيدة المتسلطة المتجبرة ودور الأم الحنون المسكينة، الذي أبدعت من خلاله في السلسلة الناجحة “مي الحبيبة”..، لقد كانت بحق، امرأة ونص، بلغة المغاربة، عكس مختلف الصور والمواقف، والاقتراب من وجدان الجماهير التواقة دائما لمشاهدة صورتها الحقيقية المعكوسة على الشاشات الصغيرة والكبيرة..
أشرطتها التلفزية غالبا ما كانت ولازالت تحقق أعلى المشاهدات، فقط لأن نعيمة حاضرة فيها، اسمها يضمن النجاح والانتشار والجماهيرية المطلقة، يكفي أن أشير لشريط “علال القلدة”، لنعرف سر نجاح هذا العمل وذيوعه وسط الجماهير المغربية، طبعا دون نسيان تألق رشيد الوالي وحرفية المخرج محمد إسماعيل، وأشرطة أخرى كثيرة من بينها “وتسقط الخيل تباعا” و”ثمن الرحيل”..
للسينما مع نعيمة المشرقي قصة عميقة في تبادل الحب والاحترام، وفي التحاور من اجل خلق لحظات متعة بصرية وتواطئ فني حق ملؤه القدرة على تقديم الأجود، أدوارها السينمائية انطلقت منتصف سنوات السبعينات من القرن الماضي مع أفلام مغربية، نشير إلى البعض منها لصعوبة حصرها كلها، أفلام من بينها “ليالي شهرزاد الجميلة” لمصطفى الدرقاوي و”عرس الدم” و”طبول النار” لسهيل بنبركة، و”وبعد” لمحمد إسماعيل و”باديس” و”البحث عن زوج مراتي” و “للا حبي” و”جارات أبي موسى” لمحمد عبد الرحمان التازي، أعمال أكدت القدرة اللامتناهية لامرأة التحدي الفني والوقوف في وجه الصعوبات وأحكام القيمة، هنا وجب التنويه بدورها المركب الصعب في فيلم “بادس” الذي أدته بكل حرفية ومهنية، ونكران للذات التي تتحكم فيها الأعراف والتقاليد البالية.
في السينما العالمية قالت نعيمة المشرقي كلمتها، وأكدت عنفوان تجربتها، بالمساهمة في عدد كبير من الأفلام، خاصة منها التي صورت على أرض المغرب، و الأخرى التي تم انجازها في استوديوهات عالمية، أفلام نذكر منها السلسة الدينية الايطالية التي تم تحقيقها بمدينة ورزازات، و شاركت في عدد من أجزائها. والفيلم الشهير ” البند الثاني ” للمخرج الايطالي الشهير موريزيو زاكارو، الذي لعبت فيه دورا غاية في الروعة لزوجة مهاجر مغربي بالديار الايطالية تعيش وضعا قانونيا مختلا ووضعا نفسيا صعبا. أدوار وأدوار راكمتها نعيمة مع مخرجين عالميين كثر، مثلما تخلت عن أداء أدوار في أفلام أخرى، لأنها تنال من صورة المرآة العربية عامة والمغربية خاصة. كل المغاربة يتذكرون، بفخر واعتزاز، الموقف المشرف لها، ولنا جميعا، وهي ترفض أن تشارك وتؤدي دور خادمة لدى عائلة يهودية، في فيلم فرنسي للمخرج روجي حنين بعنوان ” شمس “، رغم الإغراءات المادية والفنية الكبيرة التي قدمت لها، حيث كان من المفروض أن تقف إلى جانب النجمة صوفيا لورين والممثل الأشهر فيليب نواري. وأيضا، رفضها المساهمة في الفيلم الاسباني “سعيد ” للمخرج لورينزو صولير، المتضمن لبعض المشاهد الخادشة للحياء…
خلاصة القول والكلام الحق: نعيمة المشرقي، فنانة مغربية كبيرة، ومبدعة عميقة تلخص معاني الزمن الجميل المفقود، والسعادة الأبدية المشتهاة. إنسانة تنشر من خلال كلامها المتوهج المطل على كل الاحتمالات الحكيمة والممرات المنفتحة، على الماضي والحاضر والمستقبل، مضامين الفرح والآمل، هي الذاكرة المجتمعية الأصيلة الحاذقة والتجارب والمعلومات الإنسانية المتواصلة، هي التكافل والتراحم مع شرائح المجتمع بكل أطيافه وتلاوينه الطبقية، هي المعرفة الرحبة والحنان المحاط والمغلف في كل الأوقات والأمكنة بعطر المحبة الفائقة. بل هي المرأة الفنانة التي تمنحك سعادة، أن تكون حقا وحقيقة، مغربيا..