معهد الصحافة

هل أصبحت الصحافة مهنة من لا مهنة؟

هناك من يريد إغراق الميدان في الفوضى من أجل السيطرة عليه لأن الصحافي لا يمكن أن يقوم بأعمال قذرة، والتلوث السمعي البصري وصل حتى للإعلام العمومي باعتبار أن المحللين يخوضون في مسائل تخص الشأن العام وهم غير مؤهلين لذلك…

تونس: خالد هدوي*

تتصدر شخصيات مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي المشهد الإعلامي التونسي، وسط انتقادات من العاملين في المجال بأن الميدان بات مرتعا لغير المتخصصين، من وجوه فنية ومسرحية تعتمد على شعبيتها على “فايسبوك” و”إنستغرام” وما يسمى بصانعي المحتوى على حساب خريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار.

وأثر التخصص ومحدودية التدريب خارج أسوار معهد الصحافة على جودة المادة الإعلامية المقدمة للمتلقي في مختلف المنابر والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، ما ساهم في تراجع القدرة على صناعة رأي عام واع بمختلف القضايا واستهدف الرسالة الصحافية في عمقها وجوهرها.

وقال النوري اللجمي رئيس الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري “الهايكا”، أن ميدان الصحافة عادة مفتوح لكل شخص يرى في نفسه القدرة على العمل في المجال، “لكن نشترط أن يكون عدد المعينين من الطاقم الصحافي من خريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار وفق دفتر تحملات”.

ومعهد الصحافة وعلوم الإخبار هو المؤسسة العمومية الوحيدة التي يتخرج منها الصحافيون، يوجد مقره الحالي بالضاحية الغربية للعاصمة تونس ويتبع جامعة منوبة.

وتم تأسيس معهد الصحافة سنة 1968، ومنذ عام 1973 أصبح المعهد مستقلا بذاته وتابعا لوزارة التربية ثم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي منذ بعثها عام 1978 وأصبح عام 1992 التكوين في المعهد يتم في إطار جذع مشترك يشمل كل الطلبة لمدة سنتين ثم يتفرع إلى شعبتي الصحافة وعلوم الاتصال، تختتم كل واحدة منهما بالأستاذية.

واعتبرت أطراف نقابية تدافع عن حقوق الصحافيين، أن الصحافة في تونس أصبحت مهنة من لا مهنة لهم، خصوصا بعد “اجتياح” الميدان من قبل الوجوه الفنية والدرامية التي تستمد شعبيتها من صفحات مواقع التواصل، وسط غياب الإرادة السياسية اللازمة لإصلاح القطاع وتطهيره.

وقالت أميرة محمد نائبة رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين “الدخلاء اقتحموا ميدان الصحافة بعد ظهور السياسيين في المنابر الإعلامية حسب الولاءات والانتماءات الحزبية، واليوم يفسح المجال للممثلين والفنانين ونجوم “الإنستغرام”، حتى أصبحت الصحافة مهنة من لا مهنة لهم”.

وأضافت “يوجد الكثير من المتخصصين في مجال الحقوق واللغات ومتمكنون من آليات العمل الصحفي، وقانونيا لديهم شهادات علمية، لكن هناك دكاكين تكوين في الميدان رغم المنع قانونيا، وأصبح الدخلاء يخدمون أجندات مالية وسياسية أضرت بمستوى الثقة بين المشاهد والمؤسسات الإعلامية، فضلا عن غياب التربية على وسائل الإعلام الذي ساهم في ذلك”.

وأشارت محمد إلى أن الجهود المبذولة من أجل إصلاح القطاع لم تثمر أي نتيجة، لأن هناك من يريد إغراق الميدان في الفوضى من أجل السيطرة عليه لأن الصحافي لا يمكن أن يقوم بأعمال قذرة، والتلوث السمعي البصري وصل حتى للإعلام العمومي باعتبار أن المحللين يخوضون في مسائل تخص الشأن العام وهم غير مؤهلين لذلك.

وتابعت “المشاهد اليوم يتحمل جزءا من المسؤولية لأن من يقدم مادة إعلامية جيدة لا تحظى بنسب مشاهدة عالية على عكس المضامين التافهة والمبتذلة”، مشددة “المهنة لأهل المهنة ولا وجود لصحافي دون شهادة علمية، والحكومة لم تطبق القانون ضد محلات التكوين في الميدان، وسبق أن قدمنا مشاريع قوانين لتنظيم القطاع لكنها ظلت حبيسة الرفوف”.

وثمة إجماع في تونس على أن “الميديا الجديدة” التي لا تستند إلى التخصص ساهمت بشكل أو بآخر في استسهال العمل الصحفي وتقديم مضامين سطحية، فضلا عن غياب معالجة القضايا الجوهرية للمتلقي.

وأوضحت محمد “المؤسسات الإعلامية الخاصة غير منضبطة لآليات العمل الصحفي وكراس الشروط، وهناك استسهال للرأي العام وتتفيه للقضايا الجوهرية في المجتمع وأصبحت السوق الإعلامية الإشهارية تعتمد على نسب المشاهدة في مواقع يوتيوب وتيك توك، وسط غياب الإرادة السياسية لإصلاح القطاع”.

واستطردت قائلة “على الصحافة أن تحترم أخلاقيات المهنة ونأمل أن يتغير ذلك، والحل يكمن في النظر في القوانين المنظمة للمهنة”.

ومنذ ثورة 2011 أصبحت لتونس تشريعات جديدة تتعلق بقطاع الإعلام، تحتوي على قواعد خصوصية تهدف إلى مراقبة تركز الملكية، وتنظيم الملكية وشفافية وسائل الإعلام.

ويقول أكاديميون ومتخصصون في مجال الإعلام والاتصال إن الإعلام التونسي اليوم يبنى على أسس هشة وضعيفة، وسط دعوات إلى طرح مسألة التدريس الإعلامي برؤية جديدة وسن قانون ينظم التكوين المستمر في ميدان الإعلام والاتصال وإرساء مرجعيات تعليمية هادفة.

وأفاد صلاح الدين الدريدي أستاذ الإعلام والعلاقات العامة أنه “منذ سنة 2011 تأسست لجنة إصلاح الإعلام برئاسة كمال العبيدي وانتهى عملها سنة 2013 وتمخضت عنها الهايكا ومرسوما 115 و116، وموقفها بخصوص التكوين والتخصص الإعلامي هو تأكيد لنظرية مرتبطة بحقوق الإنسان وفتح المجال أمام حق المواطن في التعبير، بمعنى يمكن أن يمارس المهنة دون تخصص علمي وأكاديمي وكانت عملية مقصودة، واللجنة نفسها كان فيها أستاذان من معهد الصحافة ولم يدافعا عن الفكرة”.

وأضاف الدريدي “قانون الصحافة قبل 2011 كان ملزما لوسائل الإعلام بتوظيف 50 في المئة من خريجي معهد الصحافة، والهايكا توجهت في نفس النسق، وما نلاحظه اليوم هو نتيجة هذا التسلسل التاريخي في عدم اعتبار الصحافة مهنة متخصصة باعتبار صمت الهايكا واللجنة”.

وتابع “القطاع الآن ينشأ على أسس خاوية، ولا بد من طرح مسألة التدريس الإعلامي بمنظار جديد أمام عدم دخول المعهد وتكاثر دكاكين التكوين في غياب قانون ينظم التكوين المستمر في ميدان الإعلام والاتصال، فضلا عن غياب المرجعيات التعليمية، والدولة تم استبعادها من التدخل في قطاع الإعلام منذ 2011″، معتبرا أن “الهايكا لم تقدم الشيء الكثير للقطاع، واقتصر دورها على توجيه الخطايا للمؤسسات الإعلامية ولفت النظر وإغلاق المحطات ومنع بث بعض البرامج، كما أن اقتحام الدخلاء للميدان هو ظاهرة عالمية وزادتها وضوحا تكنولوجيات الإعلام والاتصال”.

وبخصوص الحلول الممكنة لإصلاح واقع الإعلام في تونس، اقترح الباحث في الاتصال إعادة النظر في وضع معهد الصحافة وعلوم الإخبار ودمجه مع المركز الأفريقي لتدريب الصحافيين والاتصاليين، وإرساء منهجية تدريس الإعلام، علاوة على إحداث مجلس أعلى للتدريب يشرف على ذلك، مع وضع تصنيف دقيق لكامل المهن التي تتدخل في العملية وما يقابلها من تكوين متخصص.

وأوضح “في الخليج لا يدرس الإعلام إلا من يحمل دكتوراه صريحة في الإعلام وفيه من يحمل دكتوراه في العلوم السياسية أو في علم الاجتماع أو في القانون أو في الآداب”.

واستطرد قائلا “في المحصلة نحن مازلنا نعيش بثقافة أن الصحافة موهبة إلهية وأن تدريس الصحافة مضيعة للوقت وأن الصحافة مهنة مفتوحة لمن يأنس في نفسه الكفاءة، أدعو أن تكون مغلقة وحكرا على المتخصصين في الجوانب المتعلقة بصناعة الأخبار وترويجها”.

وتم إحداث مجلس الصحافة التونسي في سبتمبر 2020، وهو أول مجلس صحافة مستقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بهدف حماية حرية الصحافة وتعزيز حماية الحق في حرية التعبير في البلاد.

ورغم إحداث مجلس الصحافة، الذي جاء في سياق تصاعد فيه نسق انتشار الأخبار الزائفة وانتهاك أخلاقيات الصحافة، إلا أن الجهود المبذولة في المجال لم تتقدم أشواطا كبيرة في معالجة الواقع الإعلامي وتهذيب المضامين المقدمة والهادفة التي ينتظرها المشاهد.

* صحافي تونسي

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

شركات الإنترنت تدعم الصحافة بملايين الدولارات

أعلنت شركة فايسبوك عن تبرعها بمائة مليون دولار لمساعدة...