أحمد الشيخاوي
برز هذا الاسم النموذجي، إبّان السّطوع الأول للقصيدة المغربية المعاصرة، بحيث استطاع إثراء المشهد الشعري ــ وطنيا وعربيا ــ بمجاميع أربع نجردها تباعا كالآتي: ويكون إحراق أسمائه الآتية ـــ بحار جبل قاف ـــــ ، ـ الكائن السبئي ــــ من فعل هذا بجماجمكم، وذلك في مدّة زمنية قياسية،لا تتجاوز ستّ سنوات،ما بين 1994 – 1987ناقلا السّجال الأجناسي من خندق المروق المتّهم للنص ، إلى آفاق التعبيرية الرّصينة والشعرية القادرة على احتواء المعاناة واستيعاب عذابات الذات وإفرازات الراهن.
هي في كلّيتها، صياغة جديدة للذات من خلال رفع وثيرة التأقلم مع واقع نص زاغ عن السّكة المألوفة للمرة الثانية،منسلخا عمّا يشبه عقيدة البوم في مجابهة أدب التجاوز،نصّ ثائر فوّار، لم يراوح مكانه ولو لوهلة، إنّما انتشر مثلما النار في الهشيم،وسلك منحى تصاعديا،بفضل رواد ذادوا عنه بكل ما أوتوا من إمكانات ووسائل، ولم يزل ذلك ديدنهم، حتّى آخر رمق، ممّا مكّن لقصيدة النثر ،وسائر تجلياتها فيما بعد،وأغدق عليها ببسط جذورها عميقا في تربة معاندة،وجبلّة ما تنفكّ تتصدى للطارئ والدخيل بقوى خارقة يرجّها الوعي المراوغ المضلل.
مستويات الاقتناع
هو محمد السرغيني المزداد سنة 1930 بمدينة فاس،نجده في طليعة هؤلاء الذين أسّسوا لتيمة الزّيغ أو الانفصال المشروع، و روّضوا الذائقة بمنجزهم المعسول الباذخ ،وارتقوا بها إلى مستويات الاقتناع بخطاب يليق بإنسانيتنا ، ينأى عن فخاخ اجترار المعاني القشيبة والمعمارية المكرورة في رسم ملامح استنطاق ظواهر حسّاسة،من قبيل الهوية والذات والآخر،إذ ترخي بثقلها على السيرة الحياتية للكائن البشري محموم الهواجس والأهداف والتطلعات، والمضطر للتحليّ بروح المواكبة وشقّ جيوب المستقبل المشرع على احتمالات لا متناهية.
لذا فإننا إذا ما سلّمنا جدلا،بأن قصيدة النثر لقيطة،وجب النبش لمعرفة تلك الأم البغي التي يُفترض أن ينتسب إليها كذا جنس تعبيري مهجّن ودخيل،جوبه في بداياته بدعاوي باطلة،من قبيل أنه ليس على مقاسات هويتنا وخصوصيتنا المحصورة للأسف،ضمن بعض القناعات المكرّسة للرجعية ،في ثقافة تمجيد الصحراء وطقوسها.
وليس ثمة داع هاهنا،إلى استجلاب سيرة الأبوة بهذا الخصوص، فهي مبتورة،علما أن تيمة الانفصال المذكورة سلفا، إنما تحوز في أقصى وأعمق معانيها ، فلسفة الفكاك والقطيعة مع عقدة الأب.
لأن الوليد وببساطة جنس عاقّ،ما يفتأ يتمادى ويسترسل في “حربائيّته ” وفقا للمستجدات الطافية على الساحة ،ورضوخا لمتطلبات الآني.
قصيدة النثر تتباهى مزهوة بألوانها، ومتعددة خارج الجغرافية والزمن، مقترفة بذلك جناية تسييس الخطاب،لكن بمعزل واشتراط جوهري، يضع الأيديولوجيات على الحياد،يقلم أظافر مصادرتها للعنصر الفنّي المانح روحا ونبضا للوجود الإنساني انتهاء.
هذا يقود إلى وجهة نظر شاعرنا ،من خلال ديوان بحار جبل قاف، الذي لم يقع اختيارنا له على سبيل المفاضلة أو الانتقائية،بعدّ التجربة على امتدادها،مشروعا زاخرا بمناقبه ،بصرف النظر عن بعض الثغرات هنا أو هناك.
وجهة نظر ومقاربة واعية للذات والعالمية والوجود من زوايا مزدانة بلبوسها العرفاني،ومسكونة بنبرة الحنين إلى الجذور.
بوح يتجمّل بما يُقلقل مكامن القلق والارتياب فينا،واشيا بتفاصيل كاملة عن قصيدة هي مجرّد نصف إطار،وهيأة متحوّلة ليس تستقرّ سوى عل بياض يستفزّنا ويقهرنا بسلطته ونادرا ما يحرّضنا على ترع طياته، ويمنّ علينا بجرأة المقامرة في فضّ كنوز ما ورائياته.
أو بالأحرى ،النّصف الجليّ،في منظومة تداخل وتشابك علائقه بالنصف الآخر المتبقّي المفقود.
كذلك هو شموخ النّص غير المستعير كونيته وكاريزماه من كمّ التّنميقات والانغلاق المقزّز،بقدر ما الظاهرة مشبوبة بحجم التّصالحات المؤثثة لعوالم جذب المتلقّي إلى فوقية ونوعية تأويلية انثيالية تغدر بياضات النص ،مميطة اللثام عن جملة طابوهات خانقة تردي معطيات الفطرة السليمة في الذات وملامح محيطها.
تهدل العتبة بما لا يستطيعه سوى المتن العرفاني في المنجز “السّرغيني” ،بما هو استقطاب للمفارقة مبطّنة بحسّ صوفي يحتفي بذاكرة المكان.
نصوص في نص واحد أوحد، بشعريّات متصادية و مختزل سماوات الشكّ والاضطراب الكينوني،تفسح للوجع كي يستأنف عروضه الطاعنة بلذاذة ما يشبه سرديات الكوميديا الإلهية،يتوارى ليعاود ظهوره ويشبّب عوْده من أدغال عجائبية أساطير ما قبل التاريخ ،على إيقاعات نبرة هادئة التّوتّر وملدوغة بسحر بعث الموروث واستدعاء الرّموز والتطبيع مع الثقافة الشعبية.
من حيث الشّعرية لا تكفّ عن تشرّب ما قد يؤهّلها للمباهاة بطيفية السّيميائيات الهادمة البانية للمعنى والخطاب، والمانحة للدوال من جهة ثانية، متتالية ولادات منطلقة من موت النصوص.
ومن حيث هي كذلك، تساكن ودعة وتجاور بين الأضداد، كأن يقول صاحبنا:
… دَجَّنَ النَّارَ وَالْوِجَاقَ أَبْقَى
نَفَسًا وَاحِدًا يَجُرُّ بِهِ النَّارَ إِلَى قُرْصِهِ.(الْعَنَاكِبُ حُبْلَى بِخُيُوطِ الإِسْمَنْت) نَعْشٌ هَجِينٌ،
وَسَرِيرٌ أَخَفُّ مِنْهُ،وَشَيْءٌ
لاَ يُسَمَّى.
وَبَيْنَ ذَاكَ وَهَذَا،حَامِلاَتُ الْجِرَارِ فِي الْمَاءِ،نَبْضٌ
لاَبِسٌ ذِرْوَةَ الزَّمَانِ،وَقَلْبٌ
خَالِعٌ قَافَه.
بِحَرْفَيْنِ دَارَتْ عَجَلاَتُ الأَفْلاَك:
حَرْفُ نَوَاةٍ،وَنَوَاةُ حَرْف.
………….
أَيُهَا النَّارُ كُونِي شَفْرَة ًمَرَّتِ الأَسَامِي عَلَيْهَا،
وَاسْتَمَدَّتْ مِنْهَا الْبَقاَء.
(رَحِيقٌ بَعْضِي وَبَعْضِي لُعَاب)
رَغْوَةٌ قَهْوَةُ الصَّبَاح.
غُمُوضٌ فِي حُبَابِ الْفِنْجَان.
(لَمْ تَنْضُجِ النَّار)
……….
وَأَبْرَدُ مِنْهُ
إِصْبِعُ النَّار.
نِسْبَةُ الرَّفْعِ للِصَّبِّ وَلاَءٌ
بِــــإِلْيَتَيْنِ وَرَأْسٌ هَرَمِيّ.
يَكُونُ ثَمَّةَ نَهْر،
وَيَكُونُ الصَّدَى صَلاَة،
وَلَكِنْ سَلاَمِي للِنَّارِ غَيْرُ سَلاَمِي…
هنا القصيدة لانمحاء الضجر،هذه العنقاء مثلما في توصيف شاعرنا لها،والمنذورة لقاعدة خذ وهات،أخذ وردّ ما بين ضديدين وصال/ هجران.
بحيث تُلهبها أكثر ،وتجعلها أشدّ خصوبة، التجارب الليلية في تساوقها مع بلاغة الجسد بوصفه متاهة رمزية للرّوح المغتربة الحيرى.
هذه المتاهة الغابة،بتعبير أدقّ، في ابتلاعها لكل شيء تقريبا،وفي تجاوبها المقنّع معْ صنوف من المكوّنات الأخرى،بما هو تواطؤ ناسج لشرك وخيوط سمّ طالما تستهدف الذات،لترصّع لها منفى البطولة على الورق، ومن ثم عيش عزلة مفتعلة،مرتجلة مُفوّتَة وإن نسبيا، فرص الإحاطة بالشطر الآخر المفقود.
مركز الانطلاق
إن للنقطة صفرا، أو مركز الانطلاقة ، هيمنته القصوى،والنكهة التي تلبسُ الأعمار،ما يتيح ل” إنكتاب ذاتي” صانع لتاريخ مواز ،مُستلهم من اللعبة الكلامية ،محقّقة كتابة عيب المشهد الموغل في جزئيات ضياعنا ونقصاننا،والمشدود إلى دوامة أسئلة صوفية وجودية باحثة في لغز لا وجود له بالمطلق، وفق مخطّطات أقرب إلى العبثية منها إلى شيء مطاوع للذهنية التي تنوء بجراحات العالم وأوجاعه.
تلكم جدلية الراكب والمركوب،وفلسفة المخمور من غير راح أصلا، ما أسرع ما تصطاده لحظة الاصطباغ بالذابل والراكد والمشوّه،الضاغط باتجاهات ومسافات تقطعها الذات متراخية مترنّحة،تغامر ملء عيوبها وعبء منسوب حمولاتها الهذيانية، في نطاق رغبة فولاذية هي كامل الوقود المحرّك لوازع الصمود فالتحدّي فالتجاوز والإقصاء، دونما اصطناع وتكلف محاولات انتشال ما لم تلطّخ براءته بعد، وتجنيبه مستنقعات السلبية والانهزامية والانكسار.
لعلّهُ فعل محاك تماما لاستنبات الشتلة في الكلس الأصمّ،على حد تعبير شاعرنا.
هذه الشعرية التي تروم نهش اليومي،وتنزع صوب أسباب تغريب المألوف،لكأنها تتلمظ التقاطعات المشرقة للاصطدام الحضاري ،وكأنها تشحذ من معضلات الأزمنة السحيقة الغابرة،مُحرجة غبار عصرنا الموبوء الجاني على طفولة وعنفوان وغضاضة الروح بعيد إطلالتها البكر ،وقدومها الفوري من بواطن نقية صافية الصفحات وأشهى من ثلوج القمم.. عصر يدميها قبل أن يغتالها( أي الروح الطاهرة) بآليته الثقيلة ونفطه وفوضاه وجنونه وشذوذه.
هذه التجربة المكتنزة بالأصوات الخفيضة لزمرة الصعاليك النبلاء، والمدانة أيضا بهجرة نصوصها إلى خارطة معنى الخراب والإفلاس الروحي بامتياز.
أشبه ما تكون بقبض على زفرات العدمية، والتلصّص على محطّات الآدمية المهدورة ، من ذاكرة مثقوبة ،كضرب من تجريبية تناور بشيطنتها ،كي تبتكر أنساقا مغايرة ذائبة في أدائية الاحتفاء بما هو عرفانيّ صرف،متماوجة ونواميس نبض أزلية تقضي بأسر أبدي لذات ما تنفكّ تنشد الحرية والخلاص.
بناء فوضويّ متكئ على الحوارية ، ومشتّت قدر شطحات مخيال الصحو، ناسف لدوال إيقاعية ولغوية، كبصمة أو ملمح من التدويرات الاستعارية الطاعنة بلذة أسلوبية التحوّلات والتلوينات الخطابية تبعا لفُجائيات برزخية مُمسرحة وضاربة عميقا في طبقة اللاوعي،مسايرة لظلال النرجسية المقبولة وقوالب المثنّى بما المعمار الكلامي في شموليته، شبكة هواجس مُخلخلة للمشترك ومساءلة للمعطّل والمهجور.
أَنَا الَّذِي تَشْحَذُ بِي بَصَرَهَا الآَلَةُ لاَ أُعِيرُهَا أَظْفَارِي أَعَرْتُهَا أَجْفَارِي/وَهَاهِيَ تَدْخُلُ شَيْئًا فَشَيْئَا إِلَى جَنَّتَيْنِ: بَكَارَتَهَا وَكَثَافَتَهَا.
رَأَيْتُ بِعَيْنَيَّ الْغَوَّاص يَشْحَذُ صَوْتَهُ الآَتِي/ جَاثٍ عَلَى قَبْرَيْنِ.مُسْتَوْفٍ مِسَاحَتَهُ وَيُحْصِي مَا تَفَسّخَ مِنْ سُدَاه.
رَجُلٌ إِذْ أُ فَكِّرُ فِيهِ أَتَسَلَّى بِحُبِّهِ فِي حَصِيدِي فَلِامْتِدَادِهِ لَوْنٌ وَظِلاَلٌ/ لِأَنَّهُمْ بِدَمْعَتَيْنِ احْتَرَقُوا.
كما تجدر الإشارة إلى أنّه لسنا بصدد ادّعاء حرفية الإمساك بكامل خيوط هذه اللعبة الكلامية، من خلال هذه التفكيكية العاشقة، بقدر ما بذلنا وبسخاء،الجهد والوقت الكافي لأجل الظفر بمقاربة شافية وافية،تعفّ عن سوى عمق الإنصات للصوت الداخلي للبياض مثلما تُنتجه الذات داخل منظومة متكاملة، وليس فقط حالة معزولة،وفق إبدالات وتمثّلات طوباوية تختزل أو تكاد، نواميس الكامن في دينامكية الكائن البشري على تنوّع ارتباطاته والتزاماته مع بقية العناصر الطبيعية المُدبّجة لفضاء القول الشعري تحت لواء الكونية.
من هنا وجب القول بأننا إزاء قامة استثنائية لا تبرح أبراج الوفاء المتّقد والإخلاص للصوت الإشكاليّ و الظاهرة الملامسة للصّميم الإنساني بشكل عرَضي مباشر.
بقي في الختام أن نُنبّهَ إلى مفصل جوهري،له حضوره الطاغي، على امتداد وترامي جسد هذه الشعرية الباذخة المثيرة للجدل، والمتجسّد في الاستثمار المُسرف والمُحكَم للجملة الشعرية بين قوسين، في مناسبات طوفانية غطّت على نحو فلكلوري المنجز برمّته،من حيث فاعليتها وجدواها في فكّ طلاسم النّص المُشفّر، باعتبارها الفاتحة لمقاصد وأغراض الذات المتسربلة عنوة، بغموض وضبابية الحكماء في معالجاتهم للتّخشّبات اللحظية، وأيضا، استشرافهم للغيبيات واستفزازهم لعتبات المجهول،باعتماد ميكانيزم العرفانية، كبوصلة موجِّهة حتى لا أقول متحكِّمة بقافلة انتشار وتفشي المعاني و الأبعاد الرّسالية الناظمة لآفاق تعبيرية هذه الفسيفساء السّرد شعرية.
نظير الشعرية
هذا وأحسب من نافلة القول،التأكيد على أن نظير هذه الشعرية،إنما يكتسي طابع العالمية ونكهة القاسم المشترك، من كونه ذي قابلية ومقدرة خارقة على استيعاب تجاوزات الرّاهن،ناهيك عن انسيابيته بخصوص تلقّف حواس نشاط التّلقّي،بالانكفاء على حقول الدلالة المنتشية بمخملية العمق وتوهّج المتون، الشيء الذي يقدّم ضمانة ،ويشفع للرّجل في كثير من الأحيان، تعاطيه المدمن في استحضار المفردة الموحشة القشيبة ،ودرج العبارة النّافرة المسكونة بأقنعة التعدّد والتناسل التّيميّ العرفاني.