قال لي مرة في بيته: “سيأتي يوم أبصق فيه وينشرون ذلك…”
بيت الفن
عن دار أكورا للنشر والتوزيع بطنجة، صدر، أخيرا، كتاب جديد للباحث نور الدين صدوق بعنوان (كتاب محمد زفزاف..المذكرات.. الروائي العائد).
عن هذا الكتاب، الذي يتمحور حول الروائي والقاص المغربي الراحل محمد زفزاف، ذكر صدوق أن كتابه “ليس فكريا أو نقديا، وإنما هو كتاب في الإبداع. كتاب عن الشاعر، الروائي، القاص والمترجم الراحل”.
وأضاف صدوق أن عمله يتضمن مذكرات اختار عنونتها بـ(كان كاتبا كبيرا.. كبيرا)، وروايتين هما (الروائي) والجزء الثاني من (العائد)، مذكرا بنشره من قبل (الروائي) كجزء أول، بتقديم من الروائي والقاص الأردني إلياس فركوح، وهو نص يحضر في هذا الكتاب أيضا.
وحول العودة في جزء ثان من (العائد) قال صدوق “قد يتساءل البعض: ولم العودة في جزء ثان عن هذه الشخصية بالذات، وبالتالي من خلال مذكرات؟ إن قارئ الجزء الأول يدرك أن التخييل الروائي انبنى على فكرة تمثل شخصية الروائي محمد زفزاف يفكر في كتابة روايته (الثعلب الذي يظهر ويختفي). الفكرة التي اقتضت السفر من فضاء الدار البيضاء إلى الصويرة، والعودة إلى الدار البيضاء. فكتابة الرواية في ارتباطها بالسفر هي كتابة الحياة”.
وأبرز صدوق أن “في الجزء الثاني، يستعيد التخييل الشخصية وقد انتهت إلى الغياب. وتتحقق الاستعادة عبر فضاء الدار البيضاء من خلال الأمكنة التي داوم الراحل محمد زفزاف التردد عليها. إنها كتابة الفقدان أو الموت. فالجزء الثاني يستكمل الأول. إنها السيرة الواحدة التي تضيء شخصية أدبية لا يمكن أن يطالها النسيان”.
واستدرك الكاتب قائلا “بيد أن المذكرات كقسم أول في هذا الكتاب، وكما فكرت في تدوينها، أعدها وليدة زياراتي المتعددة لبيت “الكاتب الكبير” منذ نهاية السبعينيات إلى أن أفل نجمه. على أني لم أدونها في حينه، وإنما اعتمدت الذاكرة في عملية الاستدعاء والاستحضار، إذا ما ألمحت لكون النسيان والتقدم في السن بمثابة عاملين حالا دون قوة الاسترجاع. من ثم فبعض الوقائع دونت بتثبيت سنواتها، فيما أخرى لم أستطع التوصل إلى تأكيد زمنيتها”.
ونبه صدوق إلى أنه قد اعتمد في القسمين الثاني والثالث من الكتاب على “التخييل الروائي”، وهو “ما يستلزم التعامل معهما وفق هذا المقتضى، بينما المذكرات هي وقائع وأحداث ومشاهد أثبتها كما عشتها”.
واختتم نور الدين صدوق مقدمة عمله بقوله “إنني وأنا أستعيد الراحل محمد زفزاف في هذا الكتاب الذي تتداخل فيه الرواية بالسيرة، واليوميات بالمذكرات، أفي هذه الشخصية التي أبدعت فجددت وأقنعت، بعض الجميل المستحق والحضور الدائم”.
مقتطف من مذكرات “كان كاتبا كبيرا..”
كان معروفا بين أهالي “حي المعاريف”. يقودك أصغر طفل لشقته، ممن دأبوا التحلق حوله كيما ينفحهم.
أطرق الباب ليتناهى حفيف خطواته. يفتح، تتقدمه سلحفاته التي ارتبط الحديث عنه بها : “الروائي وسلحفاته”. أجلس في الغرفة على اليسار. يتدفق الضوء من الشرفة المطلة على زنقة “ليستريل” وساحة المدرسة الابتدائية الخاصة. أحيانا، يصل صوت الصغار يرددون الأناشيد والآيات القرآنية.
المكتبة القصبية الصغيرة فقيرة. لاحقا سيطلعني على ثانية في غرفة نومه شبه الفارغة إلا من سرير يسع شخصين. أمامي مائدة مستديرة وكبيرة. في مواجهتي جهاز تلفاز تنطق صوره المتلاحقة، فيما أسكت الصوت. يمين الغرفة، في الأعلى، صورة للكاتب الكبير رسمت باليد. يبدو أن صاحبها ركز وبقوة على اللحية الدستيوفسكية الممشطة.
يتمدد الروائي على السرير القريب من الشرفة يتصفح كناشا يدون على صفحاته خياله الإبداعي. لم يكن يملك مكتبا. يكتب ويدخن ويشرب النبيذ الأحمر من زجاجة تتفرد ببطن.
قام من على السرير. نادى امرأة قصيرة طالبها بإحضار شاي أسود. غاب لأقل من دقيقة، ليعود بين يديه كتاب قد يكون في حدود الثمانين صفحة. قال: هذه مجموعة “الأقوى”. صدرت أخيرا عن اتحاد الكتاب العرب بسوريا.
الطبعة أنيقة ولوحة الغلاف تجريدية. أظنها لفنان يدعى زهير الحمو. وهو ذاته الذي يحرص على توقيع أغلفة مجلة “المعرفة”. هذه التي نشرت على صفحاتها دراسة نقدية عن المجموعة.
أذكر أن التشكيلي والسينمائي التيجاني الشريكي استعار “الأقوى” بهدف الاطلاع عليها. الأمر حدث والقاص محمد جبران. كان جالسني بمقهى ومطعم “الإكسيلسيور” مرتين. في الأولى صدفة لما كنت منهمكا في قراءة رواية “رحيل البحر”. خاطبني بالقول:
لماذا تضيع جهدك ؟
وأما في المرة الثانية فاستعارها بغاية القراءة، لكن دون أن يعيدها.
كان محمد زفزاف حريصا على نشر رواية ومجموعة قصصية في السنة ذاتها. وفي الغالب خارج أرض الوطن، حيث ذاعت شهرته بعد نشره قصائد وقصصا في مجلات بيروتية ذات الصيت: “شعر” و”الآداب”، بينما ظهرت الطبعة الأولى من رائعته “المرأة والوردة” (1971) ضمن منشورات “غاليري وان” ببيروت، وبدعم من الشاعر يوسف الخال.
قال لي الكاتب الكبير مرة في بيته: “سيأتي يوم أبصق فيه وينشرون ذلك”.
مقتطفات من الكتاب:
دعاني الكاتب الكبير لزيارته بالدار البيضاء. قال بأنه يسكن بالمعاريف، ويداوم الجلوس بحان “الماجستيك”.
في قاعة مندوبية الشبيبة والرياضة، سمعت صوته الجهوري لأول مرة وقراءته الفصيحة. حكى عن شخصية “بويديا”، وقد شوهد “متشعبطا” شجرة.
تلك الليلة، رفض إدريس الخوري إتمام الجلسة بعد نفاذ سجائره. فلم يكن أمام إبراهيم زباير سوى التكفل بالبحث عن علبة “كازا سبور” في ليل متأخر.
بعد اللقاء الأول، داومت على زيارته بحي “المعاريف” بالدار البيضاء.
وأما إدريس الخوري، فصادفته في الرباط قريبا من مكتبة “البشير”. كان الكتبي يعرض روايات الفرنسيHENRI TROYAT. قال إدريس مخاطبا الكتبي: أين “ظلال”؟ إنكم لا تحسنون سوى عرض أغلفة “القحاب”.
في تلك الجلسة حكى طرائف من حياته المهنية. كان يصل الصباحات متأخرا إلى إعدادية “النجد” حيث يدرس. وهو ما دعا مدير المؤسسة لمضاعفة استفساراته، فرد في حدة على ظهر أحدها “امسح بها زكك”. رفض الحارس إيصال الرد، لولا أنه ألح عليه إلحاحا بليغا، ليستدعى من طرف النائب الذي عالج المشكل بمرونة وروح تسامح. وأما التلاميذ فكانوا يتكدسون في المقاعد الأمامية يطلبون قراءة قصة من إبداعه.
غادرنا “لابريس” تمام الواحدة والنصف. في الطريق، ذكر محمد صوف بأنه شارك الكاتب الكبير قراءات قصصية بـ “الدار البيضاء”، حيث رآه يدون في مذكرة له: “إن عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب، يكتبان “التلاوات”.