بيت الفن
عن منشورات المتوسط -إيطاليا، صدر في 128 صفحة من القطع المتوسط، كتاب جديد للمفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي بعنوان “قراءات من أجل النسيان”.
منذ السطور الأولى يبدو عبدالسلام بنعبد العالي أنه يريد الكشف عن مراده من تأليف كتاب “قراءات من أجل النسيان”، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ أن ما اعتقده كشفا ليس سوى حجب لذاك المراد. فنحن أمام كتاب يحول النسيان إلى عملية لإنتاج المعرفة:
“في قصة “فونيس أو الذاكرة”، يروي بورخيس حكاية شاب فقد القدرة على النسيان. فعلى إثر سقوطه عن حصان غير مروض، لم يصب أرينيو فونيس بفقدان الذاكرة، وإنما بفقدان النسيان. ثم تدفعه المكابرة ليتظاهر بأن السقطة ليست فجيعة وإنما نعمة النعم: “قبل ذلك المساء الممطِر، حيث ألقاني الجواد الأدهم من على صهوته، كنت مثل بقية البشر، فاقد البصيرة، أصم بليدا، كنت شديد النسيان”.
فصار فونيس ينظر إلى الأعوام التسعة عشر التي قضاها قبل الحادث على أنها سنوات ظلام: “كنت أنظر من غير أن أرى، وأسمع من غير أن أفهم، كنت أكاد أنسى كل شيء”. حين سقط من على الحصان “فقد وعيه، وعندما أفاق، كان الحاضر ثريا جدا، وناصعا لحد لا يطاق، وكذلك كانت أقدم ذكرياته وحتى أقلها شأنا…”.
وفي هذا الجو، سيضعنا بنعبد العالي أمام أسئلة كثيرة تتعلق بعملية القراءة نفسها، بعلاقتنا مع ما نقرأ، وما هي القراءات التي ننساها أو نتناساها أو نتمنى نسيانها. ولكن هل فعلا لدينا قدرة على النسيان؟
ومما جاء في كلمة الغلاف: لا عجب أن يغرق “فلاسفة الجامعات” في العصر الحديث في قراءة النصوص وتأويلها، وأن تغدو الفلسفة تأويلا لتاريخ الفلسفة. غير أن انتقاء النصوص والارتباط بها اختلف من فيلسوف لآخر. فمن هؤلاء من هو أستاذ أكثر منه فيلسوفا شأن ياسبرس وريكور، ومنهم من هو عكس ذلك. ولعل من يمثل هذا الصنف الثاني خير تمثيل هو بالضبط أحد تلامذة نيتشه، وأعني جيل دولوز. عندما كان صاحب “نيتشه والفلسفة” يشتغل على الفيلسوف، فليس من أجل تحصيل معارف وتكديس معلومات، ليس من أجل توفير احتياطي فكري، فكما يقول: “ليس لدي احتياط فكر. ما أعرفه، أعرفه بدلالة الحاجة التي يتطلبها عمل أنجزه حالا. وإذا ما عدت إلى الأمر سنوات فيما بعد، يكون علي أن أعاود التحصيل من جديد.”إنها إذا قراءات في خضم إنتاج، قراءات من أجل خروج وانفصال، قراءات ليس من أجل شحن الذاكرة، وإنما من أجل النسيان.”
باقتراح حازم في بداية الكتاب من بنعبد العالي بأن ننسى النسيان، ليصحبنا بعدها إلى مكتبات الفلاسفة والاقتباسات، وتعلم الفلسفة، وثم إلى تقويض التاريخ، وإلى العلم المفكر، والتقنية، والكتابة، والحياة، والترجمة، والبطء، والمشي، واللغة. لنصل أخيرا إلى نسيانها وربما نسيان الكتاب كله.
من الكتاب نقتطف: “بإشاراته المتكررة إلى بعض التواريخ، يصر بورخيس على أن يذكرنا بأن بطل حكايته ينتمي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يسمى “قرن التاريخ”، حيث دفعت “حمى التاريخ” التي يتحدث عنها نيتشه، البعض إلى أن يتحول، مثل فونيس، إلى “آلة تخزين” سرعان ما ستتحول، بدورها، إلى قدرة جبارة على “حفظ المعلومات وادخارها”، كي تجعل الإنسان غارقا في الجزئيات، عاجزا عن أخذ المسافة بينه وبين واقع تحول إلى “ما لا نهاية له من النقط المتحركة”، والأخبار المتدفقة، والمعلومات الفياضة..”…
عبد السلام بنعبد العالي: كاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب في جامعة الرباط، المغرب. من مؤلفاته: الفلسفة السياسية عند الفارابي. أسس الفكر الفلسفي المعاصر. حوار مع الفكر الفرنسي. في الترجمة. ضيافة الغريب. جرح الكائن. القراءة رافعة رأسها. الكتابة بالقفز والوثب. انتعاشة اللغة.
من ترجماته: الكتابة والتناسخ لعبد الفتاح كيليطو. أتكلم جميع اللغات لعبد الفتاح كيليطو. درس السيميولوجيا لرولان بارت.