مسعودة لعريط

الليلة السابعة من الحجر

الحياة زجاجة عطر نفيس لا يلبث أن يتبخر

مسعودة لعريط*

قضيت الليلة السابعة من الحجر أتتبع آخر الأخبار عن فيروس كورونا على شاشة المحمول، وقبل أن أنام كنت تفقدت هاتفيا أمي وأختي وأخي المقيم بفرنسا. في حوالي الساعة الثالثة صباحا استيقظت مفزوعة على أصوات مخيفة، نباح كلاب وعواء قطط وأصوات أخرى غريبة لم أتمكن من فرزها وتحديدها. هلع دق قلبي، ذكرني بأخي الوسيم الرياضي حسين الذي فارقنا في ريعان شبابه سنة 2010 بعد صراع مرير مع مرض السرطان اللعين. ذكرني أيضا بأخي الرائع الاستثنائي أحمد الذي فارقنا فجأة بسكتة قلبية، دون إشعار ودون وداع.

آه لهذه الحياة الفانية، كأني بها زجاجة عطر نفيس لا يلبث أن يتبخر، كأني بها رغوة صابون تذهب إلى جوف الأرض من ثقب حوض الحمام. كأني بها حبيبات منزلقة، فقاعات هواء متطايرة بسرعة مذهلة، قطرات مطر منجرف، ومضة للحياة وأخرى للموت. مازالت أصواتهما تسكنني، ومازال أسى الفقد يقتلني، ولن ينتهي إلى أن ألتقي بهما في الحياة الأخرى.

سؤال الحياة والموت يؤرقني: لماذا خلقنا مادمنا سنموت؟ لم أشأ أن ألج مطارحات الفلسفة فيما يخص هذا الموضوع ولا حتى مقولات الدين، كنت فقط أنصت لنزيفي الداخلي  طيلة أيام الحجر وأتحسس عدمية الوجود.

ربي: ليتنا لم نأت إلى هذه الحياة طالما أنها ستنتهي.

أتطلع من زجاج الشرفة أرمق سيارتي المصطفة في مرآب الحي بنظرة خاصة مليئة بالحنين، فكم سافرت بواسطتها إلى مدن أحبها: آلجي، بجاية، جيجل، سكيكدة، عنابة، وحتى تونس زرتها في الصائفة الفارطة بسيارتي الرمادية “كليو” أم ب 3.

آه كم اشتاق إلى السفر…

أضواء الحي منطفئة، البيوت غارقة في الصمت، ولا شيء يتحرك، الممر الممتد من الحي الذي أقطن به إلى الجامعة، إلى الطريق السريع فارغ ولا أثر للكلاب ولا للقطط. لا شيء هناك سوى نجمة وحيدة في كبد السماء ترسل غمزات متواصلة من بعيد. أعود إلى الصالون أجلس على الكنبة دون رغبة في شرب الماء. فقد تحسست حلقي جيدا ووجدتها رطبة ولا تحتاج إلى ماء. قلت في نفسي: صحيح أن زمرة دمي “أ” ولكن الحمد لله فأنا لا أسعل ولا أشعر بالحمى.

كصوفي، حافية القدمين رحت أدور في أرجاء الشقة ثم دخلت غرفة المكتبة، الدواوين الشعرية ترمقني بنظرة لا تخلو من عشق وألم وكأنها تود احتضاني وأنا في ذلك الضياع: دواوين لمحمود درويش، علي أحمد سعيد أدونيس، أنسي الحاج، صلاح عبدالصبور، السياب، الفيتوري، لوركا بابلو نيرودا، رمبو، بودلير، الشابي، وغيرهم.

أما الروايات وهي مرصوفة بعناية في رفوف فوق بعضها البعض فقد كانت ترسل إلي إشارات مواساة وتعاطف: روايات كثيرة كنت قرأتها وأخرى مازالت تنتظر: باولو كويلو: الخميائي، الشيخ والبحر لإرنست هيمنغواي التي قرأتها في مرحلة دراستي الثانوية، الأخوة كرامازوف لديستوفيسكي، زوربا اليوناني لنيكوس  كازانتزاكيس … روايات مختلفة من الشرق ومن الغرب، ومن الجزائر وتونس والمغرب. يتوقف نظري عند رواية: قواعد العشق الأربعون للكاتبة التركية أليف شفاك التي كانت أجمل هدية حظيت بها من صديق رائع، فكم أشتاق إلى ذلك الصديق البعيد القريب.

لكل كتاب في مكتبتي أقتنيته أو أهدي لي حكاية سفر وصداقة واكتشاف ومغامرة. ومع الكتب عشت حكايات حقيقية ومبهرة أجملها قصة صديق شاعر مجنون يسرق الكتب ليهديها لمن يحب. أذكر أنه بكى بحرقة عندما أرجعت له تلك الروايات التي أهداني إياها إثر اعترافه لي أنه قام بسرقتها وأنه ماهر في سرقة الكتب ولا أحد يشك به إطلاقا. عاتبته كثيرا وتوقفت عن اللقاء به منذ ذلك الحين. أما اليوم وأنا أشاهد ما يحدث من سرقات ونهب وقرصنة للأدوية والعتاد الطبي من طرف دول كبرى والعالم في حجره الصحي، أشعر أني ظلمت كثيرا صديقي سارق الكتب. آه كم اشتاقه.

انسللت من حكايا كتبي ودردشتها اللذيذة… دون أن أتصفح كتابا واحدا، إذ لم تكن  بي رغبة للقراءة.

عدت إلى الفراش، احتضنت المخدة منتشلة جسدي وروحي من أرق كورونا وأصوات الفزع وقد هدهدتني موسيقى الكتب وحواراتي الصامتة معها. لم أر في منامي شيئا على الإطلاق كأني دبت في اللاشيء.

في الصباح عدت إلى الحياة مرة أخرى على أصوات زقزقة العصافير التي يبدو أنها تكاثرت وهديل الحمام الذي ما زال يحط ويطير من وإلى شرفتي.

كانت  الساعة الثامنة صباحا.

*كاتبة وأكاديمية جزائرية

. mesdalarit@yahoo.fr

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

وداد بنموسى

شاعرات من إسبانيا والمغرب يتوحدن في أمسية نسائية بالرباط

بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، ينظم معهد سيرفانتيس بالرباط، يوم الأربعاء 8 مارس 2023، أمسية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *