كانت الدورة 25 هذه السنة تحديا حقيقيا للقائمين على شأن المهرجان خصوصا أمام الانتقاص من مبلغ دعم المركز السينمائي وربما تحديا تجاه معاول الهدم وتقلبات المواقع السياسية لبعض الداعمين…
هشام الودغيري
يعود عهدي بالمهرجان الدولي للسنما الإفريقية بخريبكة لبداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث كان الحدث المهرجاني بارزا في بعده الوطني والقاري، وكان محطة هامة للسينيفليين المغاربة والأفارقة لمشاهدة الأفلام المغربية والأفريقية التي لا مكان لها بقاعات العرض التجارية (ماضيا وحاضرا)، ولا إمكانية مادية لجلبها للمغرب في إطار عمل الجامعة الوطنية للأندية السينمائية.
وتأسس التقليد، وشوهدت روائع السينما الإفريقية، وتناظر الأفارقة بينهم، شمالا وجنوبا، وسالت الأقلام النقدية والتنظيرية، واستمر التقليد حتى بزوغ سنة 2000، حيث ساد جو الديكتاتورية والمحسوبية والاستغلال المادي (المخفي) ومنطق إقصاء الرأي الآخر، مما شنج الوضع الجمعوي لعمل المهرجان، وأضفى بظلاله على البرمجة، وكذلك اختيار لجان التحكيم، وجعل المهرجان يفقد بريقه، أمام صعود نجم مهرجان واغادوغو (FESPACO)، وترسيخ مهنية مهرجان قرطاج (JCC)، وهم جميعا ثلاثي المهرجانات السينمائية أفريقيا صنف ألف.
بعد رحيل مرحلة الديكتاتورية، حلت حرب تموقعات بئيسة تريد توريث المهرجان للأقربين بالعُرف، وأخرى تريد الكرسي/القبعة بصفة السبق والتقادم، وضفة أخرى تبحث عن قبر المشروع من أجل إحلال خليفة له باسمها وعلى مقاسها.
مرحلة صعبة عاشها مناضلو ومناضلات الجمعية من الداخل، ضعضعت الهيكل الجمعوي والسينيفيلي، وأثرت على البرمجة، ووزن الضيوف، ولجان التحكيم، حتى سمعنا بشريط تلفزي ضعيف يفوز بالجائزة الكبرى للمهرجان سنة 2022 (“ميدان طلعت حرب 2″، إخراج مجدى أحمد علي من مصر، إنتاج 2021).
كانت الدورة 25 هذه السنة، تحديا حقيقيا للقائمين على شأن المهرجان، خصوصا أمام الانتقاص من مبلغ دعم المركز السينمائي، وربما تحديا تجاه معاول الهدم وتقلبات المواقع السياسية لبعض الداعمين. وكان التحدي أيضا سينيفيليا بإجراء غربلة المعروض والمقترح إنتاجيا / سينيفيليا (حصاد ضئيل جودة)، واستضافة تمثيلية وازنة ديبلوماسيا وتنظيريا (غياب نجوم أفريقيا).
ما طفى عندي، كخلاصة عامة حول مُجمل الأفلام المعروضة هو:
- الافتقار البنيوي لسيناريو وفكرة سيمائية، في الحصيص الأدنى من الطرح الموضوعاتي، والبسط السردي، والبناء الهيكلي لمعظم الأفلام المختارة،
- خلط تصوري بصري عند جل المخرجين والمخرجات، بطغيان الشكل التلفزيوني على القالب السينمائي تصويرا وإنتاجا،
- هيمنة أجنبية (فرنكوفونية وأنغلوسكسونية)، طغت وطمست كل بصمة هوياتية، وهمشت الحدوثة الإفريقية الراسخة في عمق جينات المشاهد (ة) الإفريقي (ة).
أين هو “الحوالة – Le Mandat” لعثمان سيمبين (1968)، أين هو “أموك – Amok” لسهيل بنبركة (1982)، أين هو “الهائمون في الصحراء – Les Baliseurs du désert” للناصر خمير (1984)، أين هو “يلين – Yeelen” لسليمان سيسي (1987)، فيلموغرافيا قارية معتبرة أسست لخصوصية إبداعية إفريقية بامتياز راسخ في التاريخ.
ما يُستشف من مجموع الإنتاجات المعروضة بالمهرجان في دورة 2025، ومن خلال قراءة جنيريكات نهاية الأشرطة، يتبين أن الهاجس المشترك، بجل الأفلام المبرمجة، هو اللهث على مصادر الدعم الإنتاجي والتمويلي، على حساب الاشتغال على الفكرة والسيناريو والإخراج (بيان جلي على فشل موضة “ورشات الكتابة”)، حيث حضر المال الشحيح وغاب الإبداع.
هذا يفتح باب التساؤل حول دور المهرجانات السينمائية في الرفع من مستوى الإبداع السينمائي، بمساهمتها في الحرص على حصيص من الجودة في اختيار المعروض عليها وفي التنقيب عن الدُّرر المغمورة، التي لا داعم ولا حاضن ولا مساند لها (في هذا الإطار أشير إلى مُستغربة عجيبة: الجائزة الكبرى لمهرجان الداخلة، ومهرجان خريبكة، ومهرجان الدار البيضاء / العربي، برسم سنة 2025، هي لأفلام موزَّعة من نفس الشركة “Mad Solution” المصرية؟؟؟).
وفي حديث آخر:
خريبكة ليست مدينة سياحية، وليس بها بحر ولا نهر، خريبكة منجمية سابقا، “قهوجية” حاليا (أنموذج بامتياز للمقولة الشهيرة “توجد مقهى بين مقهى ومقهى”، في تنافس ديكوري وخدماتي يفوق عرض مدن المغرب الكبرى).
وفي سبيل تأثيث رتابة معيش المدينة “القهوجية”، يأتي “مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة” لإشعاع نفس ثقافي واحتفالي محليا، ونشر ثقافة سينيفيلية جنوب/جنوب وطنيا. كل ذلك، على خلفية عودة روح العمل الجماعي، على أنقاض الديكتاتورية الفارغة التي هيمنت لسنوات على مآل المهرجان، حيث هيمنت ثقافة تلميع صورة الشخص أكثر من صورة السينما والبلد والمدينة، مع إقصاء مبدأ إعداد الخلف جمعويا وتنظيميا (كفانا دكاكين جمعوية مُستغِلة للسينما والعمل الثقافي، من أجل تلميع الصورة الشخصية وسحت المال العام).
ما استنتجته بدورة 2025،هو نجاح تحدي وصمود أعضاء مكتب “مؤسسة المهرجان” في مناهضة وقبر مشروع توريث المهرجان لأشخاص خالوا أنفسهم حاملين لمفاتيح المؤسسة، كما استطاعوا إزالة هالة/غربال الزعيم الديكتاتوري الأبدي الذي اقترن المهرجان باسمه، واسمه بالمهرجان (كانت من بين نقاط خلافي شخصيا مع الزعيم الراحل).
بالتالي يمكن تجاوز هفوات برمجة هذه الدورة الـ25، على حساب مُكتسب إعادة إدارة المهرجان لقاعدته الجمعوية الديمقراطية، لَمَسُتها عن قرب في عمل خلية متناسقة، كل في مجاله، دون تقاطعات اختصاصات ولا هيمنة زعامة ديكتاتورية تُذكر.
ظِل الديكتاتور الورقي انقشع، الآن يجب العمل داخل البيت من أجل تطوير المهرجان انطلاقا من قاعدته السينيفيلية، وصولا إلى واجهة تمثيليته بدبلوماسية وازنة (بتظافر الجميع، إدارة المركز وجامعة الأندية ومؤسسات وشركاء ذاتيين ومعنويين)، وهذا لن يتأتى إلا بالانفتاح على الآخر (محليا ووطنيا ودوليا) مع التركيز على إعداد الخلف، وضخ دماء جديدة وشابة من أجل ضمان الاستمرارية، في مسار تطويري هادف، وإشعاع سينما مغربية بكل روافدها قاريا وأمميا.