أشرف عليه الباحثان الفرنسيان برتران بادي ودومينيك فيدال ونقله إلى العربية نصير مروة
بيت الفن
ضمن سلسلة “حضارة واحدة”، أصدرت مؤسسة الفكر العربي، أخيرا، النسخة العربية لكتاب “عودة الشعبويات.. أوضاع العالم 2019″، الذي أشرف عليه الباحثان الفرنسيان الأستاذان في معهد الدراسات السياسية في باريس، برتران بادي ودومينيك فيدال، ونقله إلى العربية الأستاذ نصير مروة.
ويرى الكتاب أن العالم في النصف الثاني من القرن الـ20 عاش ما يسميه “الموجة الثانية من الشعبوية”، حيث عاشت بعض البلدان ما يسميه ب”شعبويات الاستقلالات” التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا الناصرية والدعوة إلى الوحدة العربية في مصر، أو ما يسميه “شعبويات حركات التحرر الوطني والاستقلالات”.
ويشير الكتاب إلى أن العالم الثالث، الذي نشأ حينها، قد باشر نهوضه ولكن على أسس شعبوية، ويشير مارك فيرو إلى بروز شكل جديد من الشعبوية، هي تلك التي وجدها في العالم الثالث، وتستند إلى الطائفة أو العرق أو القبيلة، كما في إفريقيا وبعض آسيا، ويربط الباحث فرانسوا بورجا في الكتاب بينها وبين “الإسلاموية”.
ويستهل برتران بادي الكتاب بالحديث عن “عود الشعبوية الأبدي” مرة، و”عودها اللجوج” مرة أخرى، لكن الأبد الذي يشير إليه بادي هو أبدٌ له بداية، وهو يبدأ عند أستاذ علم السياسة جي هيرميه في أواخر القرن ال19، خلال الحقبة التي شهدت ولادة الشعبويات الأولى: النارودنيكي الروس، والبولانجيين الفرنسيين، وحزب الشعب الأمريكي، والإيروجينية الأرجنتينية.
ووفقا للكتاب “إذا كانت موجة الشعبويات الأولى ستنتهي لأسباب مختلفة (الثورة البلشفية في روسيا، الجمهورية الرابعة في فرنسا، الانقلاب العسكري في الأرجنتين)، إلا أن الموجة الثانية ولدت ما بين الحربين العالميتين، ففي دراسته “الفاشية، أسطورية الحقد وسياسته”، يجعل زئيف شتيرنيل من الفاشية الإيطالية محور هذه الشعبوية وأساسها، في حين ستخلف البوجادية البولانجية في فرنسا، ولا يتردد دومينيك باري في دراسته “ماو وخلفاؤه وخط الجماهير”، في إدراج ماو تسي تونغ “وشعبويته الريفية” بين أقطابها. ويجعل الباحث في علم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي رافاييل ليوجيه في دراسته “الشعبوية المائعة في الديمقراطيات الغربية” من فيديل كاسترو، زعيما شعبويا لداعي افتراض تجسيد الزعيم للشعب بكليته.
ويستعرض الكتاب كذلك الشعبويات التي اندلعت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية خاصة، وكان لها منظروها من الرئيس التشيكي فاكلاف هافيل إلى الروسي سولجينيستين إلى البولوني ميشنيك، وقد شهدت أوروبا كوكبة واسعة من الأحزاب والحركات الشعبوية، إذ وصل بعضها إلى سدة الحكم كما في المجر وبولونيا وإيطاليا، أو دخل في حكومات، أو حقق تقدما لم يعد يمكن تجاهله كما هو الحال في النمسا وإسبانيا وبلدان إسكندنافيا.
وهناك أخيرا الشعبويات التي يربطها رافاييل ليوجيه بأزمة العام 2008 العالمية المعولمة، وهو لا ينكر صلتها بشعبويات سنوات ما بين الحربين، لكنها هذه المرة، برأيه شعبوية وليست إيديولوجية، فهي لا تتغذى من عقيدة ماركسية أو فاشية كما كان الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، بل تعاني من فقدان إيديولوجيات القرن العشرين للمصداقية، إنها شعبوية موسومة بسمات الضيق والقلق من العولمة وآثارها، والضيق يتخذ هنا صورة “الهجرة الزاحفة” أو التوجس من “رأسمالية لا تعترف بأي حدود” أو يتبنى صورة “أسلمة العالم”؛ وهذا يجعلها تتميز عن شعبويات ما بين الحربين التي كانت تعاني من الإحساس بالتطويق: دول- أمم تطوق دولا- أمما.
ووفقا للكتاب تعاني شعبويات اليوم، من قلق يتخذ صورة المسلم المكروه، والغجري المطرود، والمهاجر المرفوض، وشعبوية اليوم هي شعبوية رأي، إنها من هذه الزاوية تقبل التوصيف “بالشعبوية المائعة” أو “السائلة” وفقا لتوصيف رافاييل ليوجيه: “تظهر متأرجحة متقلبة في العمق”، وتبدو كلها وكأنها تغير موضوع عدائها، فهو المسلم وهو الغجري (Rom)، وربما يكون اليهودي والمهاجر، بل إنه طرأ جديد، فدولة العناية أو الرعاية التي طالما كانت البلدان الإسكندنافية مثالها وتجسيدها، باتت مصابة بعارض الشعبوية، لكن إلى ماذا يتطلع شعبويوها؟ الأجوبة تقول إنهم لا يتطلعون، بل يتوجسون خطر العولمة والهجرة والأزمة، لاسيما الأخيرة منها (أزمة 2008).
ويقدم الكتاب تعريفا للشعبوية كمفهوم، انطلاقا من كونها في الأساس علاقة بين شعب وزعيم كما يجمع أغلبية الباحثين في الكتاب، ومع ذلك يبدو مفهوم الشعبوية واسعا شاسعا، ولعله مفهوم مضطرب، ومع هذا، فإن ثمة من يجد لذلك مخرجا، إذ يرى فيليب ريوتور أن ثمة سمات مشتركة بين الشعبويات، تتمثل في أنها حركات تبحث عن الإجماع بأي ثمن، وأنها على الرغم من الخلافات العميقة بينها، تخوض حربا إيديولوجية ضد المعارضين والمنتقدين، وهي عند جان كلود مونو تبدو وكأنها تتحدى مقولات العلوم السياسية.
وتبدو الشعبوية عند جان إيف كامو، أسلوبا سياسيا، أو أسلوبا في الحكم، ويستند فرانسوا بورجا إلى المؤرخ فيليب روجر الذي تشير الشعبوية لديه “إلى مركب معقد من الأفكار والتجارب والممارسات، لا يسع أي تصنيفية، بالغا ما بلغ تمحيصها وتنقيبها، أن تستغرقها كلها أو تستنفذها جميعها”، وهو ما يؤكده مونزا، فالشعبوية بالنسبة إليه هي أبعد من أن تشير إلى إيديولوجية متماسكة، بل تتجسد في جداول أعمال (أو أجندات) متنافرة، فالشعبوية اسم لأزمة بأكثر مما هي تعبير عن إيديولوجية، كما يرى برتران بادي، الذي يعتبرها شاهدا على فشل الإيديولوجيات، أو ربما ضربا من الفراغ، أو ضربا من المزدوجين اللذين يجري تعليق الخيارات الكبرى بينهما.
ورغم الصراعات الأيديولوجية التي تفرق بين اليسار واليمين، فإن الشعبوية تجمع بينهما، وتشتركان كما يقول لازار في نقاط لا تنكر، فالشعبويون جميعا يطرحون الطبقات القيادية ويمقتون التنظيمات كافة التي تشارك وفقا لهم في “النظام”، حتى ولو كانوا يتخذون هم أنفسهم مواقعهم فيه.، وهم يعارضون العولمة وينتقدون الاتحاد الأوروبي، ويهدفون إلى نصرة السيادة الشعبية، ويضعون وجوه الديمقراطية الليبيرالية التمثيلية موضع إعادة نظر، مفضلين عليها الديمقراطية المباشرة، وهم جميعا يملكون رؤية كارثية للعالم الحاضر ولوضع بلادهم، ويقابلونها ويعارضونها برؤية مثالية، وإذا كانت الشعبوية هي ذلك التضاد بين “الشعب” و”النخبة”، فإنها توشك أن تكون ظاهرة ملازمة للاجتماع البشري، وبهذا تكون معاودة ظهورها عودا أبديا كما تقدم.