لحنها عبد القادر الراشدي سنة 1964 وكتب كلماتها أحمد الطيب لعلج وغناها إسماعيل أحمد وأعاد غناءها عشرات المطربات والمطربين
وليد السجعي
ما أن يهل شهر رمضان حتى تشرع الإذاعات والقنوات التلفزيونية في المغرب والعالم العربي والإسلامي في بث الأغاني الدينية والابتهالات الدينية والأناشيد والأذكار الصوفية والأدعية.
ومن بين الأغاني المغربية، التي ارتبطت بالشهر الكريم والمناسبات الدينية، وترسخت في ذهن المستمع المغربي على مدى أزيد من نصف قرن من الزمان، أغنية “المثل العالي” المعروفة، أيضا، باسم “أمحمد صاحب الشفاعة والنور الهادي”.
هذه الأغنية التي لحنها الراحل عبد القادر الراشدي، سنة 1964، وكتب كلماتها الراحل أحمد الطيب لعلج، وغناها الراحل إسماعيل أحمد وأعاد غناءها عشرات المطربات والمطربين من بينهم حياة الإدريسي ولطيفة رأفت، ظلت، حسب مجموعة من الباحثين والمهتمين بالأغنية المغربية، حاضرة بقوة منذ 53 سنة، لأنها تتوفر على مقومات الأغنية الناجحة أو ما يصطلح عليه كلاسيكيا بـ”الأضلاع الثلاثة” (الكلمة الجيدة واللحن المعبر، والأداء المتميز)، وتلك مقومات اختفت في زمن هيمنت فيه الاغنية التجارية والاستهلاكية، نتيجة تراجع دور الإذاعة والتلفزيون في الإنتاج، وهيمنة شركات الإنتاج الخاصة التي لا ترى في الاغنية سوى جانبها التجاري من خلال استعراض الجسد.
ولعل ما يجذبنا للأغاني الدينية، وتحديدا لأغنية مثل “المثل العالي” أشياء كثيرة لعل اهمها أننا نجد أنفسنا في العديد من الحالات ننصاع لنداء الروح ونسعى لطلب التوازن الروحي، والبحث عن ضالتنا على شاطئ الأغاني الهادئة تماما، كما ننصت للقصائد الدينية والأذكار والموسيقى الروحية.
“المثل العالي” أغنية دينية أبدعها الموسيقار الراحل عبد القادر الراشدي (1929 / 1999) الذي ولد وترعرع بمدينة فاس بحي سيد العواد، حيث منذ طفولته كان محاطا برعاية العائلة، التي كانت حريصة على الاحتفال بالمناسبات الدينية، من خلال إقامة حفلات كانت تحييها مجموعات عيساوة وجيلالة، كما كان متأثرا جدا بجلسات الزوايا وحلقات الذكر الصوفي، ما أهله إلى أن يصبح في ما بعد خبيرا في الإيقاعات والأهازيج الشعبية التي عشقها منذ طفولته، ما أهله لتلحين أغاني عاطفية ووطنية ناجحة، فضلا عن تلحينه العديد من الأغاني الدينية التي أصبح رائدا فيها.
وحسب الباحث عبد الحي السوسي، لعب الراشدي دورا كبيرا في صنع نجومية المطرب إسماعيل أحمد الذي برز، في بداية حياته الفنية خلال خمسينيات القرن الماضي كعازف كمان، لكن الراشدي سيكتشف جمال صوته وخصوصيته، فيهديه أولى الأغاني الوطنية سنة 1963 “ناديني يا ملكي يا حبيب الشعب” ومطلعها “طايع راضي نموت شهيد أنا وولادي/ نضحي بشبابي ونهدي عمري وما عندي/ في سبيلك يا بلادنا”.
سنة بعد ذلك، سيهديه الراشدي تحفة غنائية ذات طابع ديني / وطني هي “المثل العالي” أو “أمحمد صاحب الشفاعة”، وهي من كلمات الفنان المسرحي والشاعر الغنائي الراحل أحمد الطيب العلج.
يضيف السوسي، “ثلاث مقومات كبرى اجتمعت لهذه الأغنية لتجعلها من خالدات الطرب المغربي فرادة صوت إسماعيل أحمد، أصالة الكلمات التي نحتها العلج من التراث الابتهالي الديني والشعبي، ورونق الألحان التي أبدعها عبد القادر الراشدي، الذي برز آنذاك كأحد مؤسسي الأغنية العصرية في المغرب”.
القيمة الكبرى لهذه الأغنية، حسب السوسي، ليست كامنة فقط في تميزها الصوتي والموسيقي، أو في مضمونها الديني الابتهالي المتمثل في مشاعر التوسل من أجل الرجاء في شفاعة النبي، ولكن في صورة الإسلام المنفتح التي تبشر به آنذاك استنادا إلى سيرة محمد (ص) الذي تتغنى بها الأغنية كمنبع للنور وكمصباح للهدى، اللذين يعلمان الناس قيم المحبة والرحمة والأخوة والوفاء والسماحة ونكران الذات…
الميزة الثانية للأغنية، يضيف السوسي، تتمثل في أنها جمعت بين بعد الابتهال الديني (الخاص بذكر مناقب الرسول الكريم وبهاء سيرته المثلى، والبعد الوطني التغني بالمغفور له الحسن الثاني باعتباره حفيد الرسول الكريم، حيث يرد في الأغنية “يا مصباح الهدى يا النبي خاتم الرسل / بجاهك عند الله الكريم تسود الحكمة/ وحفيدك يوفقه الله ويسرح الخبال / ربي يا ربي تأيده وتسدد خطاه/ حتى ينصر علام النبي والمثل العالي”…
لكل ذلك حققت الأغنية نجاحا جماهيريا غير مسبوق في تاريخ الغناء الديني، يوقل السوسي، “لدرجة أنها لم تبق حبيسة الطقوس والمناسبات الدينية والوطنية، ولكنها صارت تداع على امتداد السنة، وفي كل الأعياد والأفراح بما فيها الأعراس، حيث تبنت الأجواق، إلى اليوم، فكرة أن تجعلها أغنية الافتتاح تيمنا بمضمونها الديني وبذكر الشهادة، وتبركا بالصلاة على النبي الكريم. كما أن مطربين ومطربات، من مختلف الحساسيات والأجيال، حرضوا على أن يعيدوا تقديمها في مناسبات مختلفة.