أمير العمري *
يتصور البعض خطأ أن السينما الشعرية (وهي غير الأفلام التي توصف بالشاعرية) هي تلك الأفلام التي تستخدم الشعر المكتوب كمصدر أساسي لها أو تستند إليه أو تقتبس منه، أو تسعى لترجمته عن طريق الصور المتحركة والموسيقى والألوان، ولكن هذا التصور خطأ شائع، فشعرية الفيلم لا تتحقق من “القصيدة” التي كتبها شاعر، بل من بناء وتشكيل الفيلم نفسه وتكوينه الداخلي ورؤية مخرجه وعلاقة نظرته السينمائية بالعالم كما يراه ويتخيله، وليس بالضرورة كما هو موجود في الواقع.
وعندما يوصف سينمائي مثل تاركوفسكي مثلا بـ”شاعر السينما الروسية” -كما يفعل الكثير من نقاد السينما في الغرب والشرق- لا يكون هذا راجعا إلى استخدامه قصائد الشعر من نظم والده في عدد من أفلامه، وهي أصلا لا تزيد عن سبعة أفلام روائية طويلة، بل من علاقة أفلامه بالتأمل، من خلال الصور والإيقاع وحركة الكاميرا البطيئة، واللقطات التي تتخذ إيقاعا خاصا من وجودها على الشاشة، ومن استخدامه المميز لفكرة التلاعب بالزمن، والتداخل بين الصورة المنطبعة في الذهن والصورة كما توجد في الخيال، ومن العلاقة مع الطبيعة أيضا.
وسواء كانت بعض اللقطات مصحوبة بشعر والده أرسيني تاركوفسكي أو صامتة تماما، لا حوار فيها بل نسمع فيها فقط أصوات الطبيعة، يبقى الإحساس بشعرية الفيلم، بسبب بنائه وطريقة استخدام تاركوفسكي للتكوين وحركة الكاميرا وزوايا التصوير وخلق الإيقاع العام والتمهل في صياغة الفكرة.
والمهم في نهاية الأمر، قدرة الصور وصياغتها السينمائية، على توليد المشاعر والأحاسيس لدى المتفرج، أي بماذا يشعر المتفرج وهو يشاهد الصورة في حركتها أو سكونها، ما تكشفه وما تخفيه، فتاركوفسكي يستخدم الصور بديلا عن أبيات القصيدة.
ولا شك في أن شاعر السينما الأميركية في المقابل هو المخرج تيرنس ماليك الذي ليس شاعرا ولا يكتب الشعر ولا يستخدم القصائد المكتوبة في أفلامه، بل هو أساسا دارس للفلسفة، لكنه يستخدم عناصر السينما الشعرية في بناء أفلامه التي تعتبر تجربة مشاهدتها ممتعة على المستوى الذهني وعلى مستوى المشاعر بالطبع، فهو يبدأ الفيلم كما يبدأ الشاعر قصيدته أي من نقطة غير محددة، ويمضي معها دون سياق درامي يقود نحو ذروة ما، فما يشغله ليس الصراع الدرامي بل التعبير عن المشاعر الإنسانية، عن علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقتهما بالطبيعة وبالكون، وتصوير قوة الطبيعة وهيمنتها القاسية أحيانا على الإنسان كما لو كانت معادلا للقدر أو القدر نفسه.
وسياق الفيلم يمكن تفسيره من وجهات نظر مختلفة ومتباينة، فالمعنى لا ينتج من تفاعلات قضية اجتماعية أو سياسية بل من التأمل الحر الذي قد ينتهي نهاية لا يتوقعها المخرج نفسه، فتعامله مع لغة الفيلم مثل تعامل الشاعر مع اللغة التي يستخدمها في كتابة قصائده.
التعبير الشعري عن العالم في السينما يمكن أن يبرز أيضا من خلال العلاقة بين الفنان السينمائي وأداته في التعبير: أي الكاميرا.. والمونتاج (الذي يميز الفيلم عن سائر الفنون) ولا يمكن أن يوجد فيلم دون مونتاج حتى لو غاب تدخل القص وإعادة اللصق فيه، فلا بد أن تحتوي الخطة الأصلية للتصوير على هيكل معين تتحرك فيه الكاميرا بحيث تفتح المجال على منظور واسع أو تغلق وتضيق عليه، أو كيف تلتوي مع حركة شخصية ما أو تنكمش مع حركة شخصية أخرى، ومتى يمكن أن تكون ثابتة أو متحركة.
لم يكن المخرج الإيطالي بازوليني شاعرا سينمائيا مرموقا لأنه كان يكتب الشعر، بل لأنه نجح في توظيف لغة السينما في التعبير الشعري عن العالم، ولا يقل فيلليني الذي لم يكمل تعليمه أصلا ولم يكن مثقفا رفيعا من عشاق قراءة الشعر، عن غيره من كبار شعراء السينما، بفضل حسه الشعري الذي يبرز في أفلامه.
والشعر السينمائي يرتبط في النهاية بدلالات الصور المجازية، لا بدلالات الكلمات، حتى لو كانت تصف صورا، فوسيلتها تظل الكلمة، لا الصورة والموسيقى والصوت.
ناقد سينمائي مصري