تم تقديم العرض الذي يعيد الاعتبار لمؤسسي مسرح الحي عبد الإله عاجل وحسن فولان بشباك مغلق…
سعيدة شريف*
في مبادرة فنية وإنسانية بديعة، تمكن المخرج المسرحي الشاب أمين ناسور من جمع رواد الخشبة بالمسرح المغربي من خلال فرقة “مسرح الحي” برائديها عبد الإله عاجل وحسن فولان، وبممثلين وفنانين شباب من خريجي المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي في فرجة مسرحية تحمل عنوان “سدينا”، (انتهينا بالعامية المغربية)، تطرح سؤال المسرح والقيم برؤية جيلين، والوضع الاعتباري للممثل المسرحي بالمغرب، خاصة حينما يبلغ أرذل العمر، ولا يعود قادرا على العمل والعطاء كما كان من قبل.
تصل مسرحية “سدينا”، التي قدم عرضها الأول بشباك مغلق وحضور جماهيري غفير في نهاية أبريل الماضي بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، الماضي القريب بالحاضر، وتعيد الاعتبار لهرمي فرقة “مسرح الحي” ومؤسسيها عبد الإله عاجل وحسن فولان، اللذين توقفا عن العمل مند 27 سنة كثنائي في الفرقة، بعد مسار حافل بالعطاء المسرحي والتميز والإقبال الكبير من طرف الجمهور، حيث سجلت مسرحياتهما نجاحا مبهرا، ولكنهما بسبب المرض وقلة الإمكانيات توقفا عن الاشتغال في المسرح، ولكن شعلته ظلت وقادة في نفسيهما، ولم يبخلا على الجيل الجديد بالنصح والتكوين، ولم يؤمنا بالقطيعة أبدا، بدليل أن الفنان عبد الإله عاجل اشتغل في مسرحية “النورس” للمخرج بوسلهام الضعيف، التي حاور فيها نص الكاتب المسرحي الروسي أنطوان تشيخوف، وطرح أسئلة المسرح والمجتمع من داخل المسرح.
مسرحية “سدينا” لا تحيد عن هذا الاتجاه، لأنها مسكونة بقلق السؤال عن المسرح والوضع الاعتباري للممثل المتقدم في العمر، الذي حينما يمرض لا يحسنون الرأفة به ولا تكريمه بالشكل اللائق أو إشراكه في الأعمال الفنية، بل يأخذون معه صورا وهو على فراش المرض، ويستعرضونها في وسائل التواصل الاجتماعي، كما لو أنه بطاقة بريدية أو “كارط بوسطال” كما صرخ عاجل متألما في المسرحية، متناسين الدور الفعال الذي قام به “مسرح الحي” في نهاية ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بالمغرب، في خدمة المجتمع من خلال إثارة القضايا السياسية والاجتماعية التي تؤرقه مثل التعليم في مسرحية “العقل والسبورة”، والهجرة غير الشرعية في “حسي مسي”، والصحة في “شرح ملح”، وغيرها من المسرحيات: “شارب عقلو”، و”حب وتبن”، و”عين بين”، التي صالحت الجمهور المغربي مع المسرح، حيث كانت عروض هذه الفرقة القريبة من الناس تقدم بشبابيك مغلقة وبإمكانياتها الذاتية، وفي غياب تام للدعم الذي تستفيد منه الفرق المسرحية بالمغرب اليوم.
النقد الذاتي وسؤال القيم
إضافة إلى هذا، كان منطلق هذه المسرحية، التي ألفها الفنان عبد الفتاح عشيق وأخرجها أمين ناسور، وشارك في تشخيصها إلى جانب عبد الإله عاجل وحسن فولان، كل من الممثلين الشباب: المهدي فولان، ومريم الزعيمي، وأيوب أبو النصر، ومونية لمكيمل، وهي وجوه مألوفة حاليا في التلفزيون والمسرح المغربي، هو النقد الذاتي وسؤال القيم والمبادئ التي غابت عن المشهد الفني في السنوات الأخيرة، واستشرت فيه أمراض البغض والكراهية والنميمة المقيتة، التي ساهمت في تأجيجها وسائل التواصل الاجتماعي و”صحافة البوز”، التي تبحث عن الإثارة والفضائح لتحقيق الأرباح، ولو على حساب الفنانين وسمعتهم، والذين انخرطوا للأسف في هذا الأمر، وهو ما تم التعبير عنه في المسرحية من خلال الصراع الذي جمع الممثلتين: مريم الزعيمي ومونية لمكيمل في مشهد لهما في ندوة صحفية، لم يتم التطرق فيها للأسف لأعمالهما، بقدر ما كان الأمر متعلقا بالفضائح، وحتى في الوقت الذي كانتا ترغبان فيه الحديث عن الأعمال وتطلبان من ممثلي الإعلام تناول هذا الموضوع، كان الجواب: “هذا غير مهم المهم هو الفضائح”، لأن هذا هو ما يبيع ويحقق “الشهرة” للفنان.
وبعد هذا التمهيد الممسرح، والمقدم في قالب كوميدي هزلي يجمع بين التشخيص والرقص والموسيقى والغناء الحيين، تعرض مسرحية “سدينا” لفرقة “مسرح الحي” قصة موازية هي عودة الفنان حسن فولان من الديار الفرنسية برفقة ابنه وزوجته من أجل استرجاع بيته، الذي تركه في عهدة صديقه عبد الإله عاجل مدة 27 سنة، ليجد صديقه مريضا بالزهايمر، مرض النسيان، لا يتذكر إلا حياته القديمة، وأنه يعيش في البيت رفقة ابنه وزوجته. وهنا تتواصل المسرحية في مشاهد لا تخلو من طرافة ورسائل وغوص في نفسية الشخصيات، التي تبحث لنفسها عن موطئ قدم، خاصة الشباب الذين يحثون فولان على استرجاع مفاتيح البيت من عاجل، وتقديمها لهم، في تعبير عن تقديم المشعل للشباب في المسرح، مع التركيز على عدم نسيان الخلف للسلف.
وهو ما سيتحقق في نهاية المسرحية، التي امتدت على مدى ساعتين تقريبا، حيث سيسلم عاجل المفاتيح لفولان، والذي سيسلمها بدوره للشباب، ليقول عاجل: “سدينا” بحمولتها في الدارجة المغربية، التي تعني التوقف عن الخوض في أمور لا طائل منها من مثل التفاهة والإثارة أو”البوز الخاوي”، والنكران والجحود، والتفاهة والأباطيل، والاهتمام بالمستقبل والعمل الجيد الذي سيترك أثره بكل تأكيد مع “مسرح الحي” والجيل الجديد، حتى ولو كان من بينهم ابن حسن فولان، المهدي فولان، الذي عانى الأمرين من تبعات حمل هذا الاسم، لأنه دائما ينظر إليه في جلباب الأب على الرغم من كفاءته ومقدرته ورؤيته الخاصة، وهو ما تم التعبير عنه في مشهد في المسرحية، حيث يمكن التساؤل هل نجاح الأب وشهرته نعمة أو نقمة عل الابن الفنان؟
رؤية إخراجية عصرية
لم يكن البيت في المسرحية، التي أبدع في تصميم السينوغرافيا الخاصة بها الفنان طارق الربح والتأليف الموسيقي ياسر الترجماني، إلا ذريعة للحديث عن تجربة “مسرح الحي”، التي تأسست عام 1986، وقدمت مجموعة من الأعمال المسرحية الجريئة التي مازالت محفورة في ذاكرة وقلوب المغاربة، والتي حققت شهرة للفرقة ولكل أعضائها، لأن الفرقة عملت على أن تكون البطولة في أعمالها جماعية، ومن خلالها برز كل من مؤسسيها عاجل وفولان، والفنان الراحل نورالدين بكر، ومحمد الخياري، وعبد الخالق فهيد، وجواد السايح، ومحمد مهيول، وعائشة ماهماه، وآخرين. ولكن بعد توقف الفرقة عن العمل اختار كل واحد من هؤلاء الفنانين طريقه، وظل الحلم بعودة الفرقة إلى الاشتغال من جديد يراود مؤسسيها عاجل وفولان، وبعد محاولات سابقة للم شمل أعضاء الفرقة باءت بالفشل، ها هي فرقة “مسرح الحي” تعود من جديد، مع جيل جديد، وبرؤية إخراجية عصرية، قال المخرج أمين ناسور بأنها شكلت تحديا له، خاصة أن الفنان حسن فولان هو الذي رشحه لإخراج هذا العمل المسرحي، وزكاه عبد الإله عاجل دون تردد، وهو ما حمله مسؤولية كبيرة، وجعله يضاعف جهده ويعمل على تطويع رؤيته الإخراجية التي عرف بها في أعماله المسرحية، عبر البحث عن نقط الالتقاء بين تجربته وأسلوب “مسرح الحي”، حتى تتلاءم مع الشكل الفني لـ “مسرح الحي” ولمساره التاريخي، لأنه شكل ظاهرة مسرحية حقيقية في المغرب.
وأضاف أمين ناسور، المتوج حديثا بجائزة أفضل عرض مسرحي في مهرجان المسرح العربي في دورته 14 بالعراق عن مسرحيته “تكنزة قصة تودة”، أن الاشتغال على هذه المسرحية “تطلب سنة كاملة من التحضير بين الإقامة الفنية للكتابة والاشتغال على موسيقى العرض، والتداريب على العرض حتى نخلق الألفة بين فريق العمل ككل، ونخرج بعرض مسرحي يليق بسمعة وقيمة مسرح الحي”.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة مسرح الحي ظهرت بأمريكا (Living Theater) أثناء حرب فيتنام، حيث طرح هذا المسرح معاناة الآباء والأمهات من الأمريكيين، الذين فقدوا أبناءهم في حرب فيتنام، وعرض ما يسمى بالتحول الإنساني إلى اللاإنساني أثناء الحرب، وفي العراق قدم المسرحي حسن حنتوش مسرح الحي، وفتح الجرح العراقي على الركح، فكان تفاعل الجمهور رهيبا مع هذا المسرح، الذي يجعل من ثلاثي المسرح والجمهور والممثل قضية واحدة، وتلك غاية المسرح الجماهيري الحقيقية التي لم تستسغها السلطات، فتعرض حنتوش للهجوم والتضييق واتهم بإشعال فتنة الطائفية بالعراق، فتوقف عن العمل، وفي أمريكا قامت الدولة بتكوين فرق مسرحية حتى تقضي على فرقة مسرح الحي. أما في المغرب فإن الإهمال كان كفيلا بجعل هذه الفرقة المسرحية التي خرجت من رحم “الحي المحمدي” بالدارالبيضاء في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والتي استطاعت أن تخلق لنفسها مكانة مهمة في المشهد المسرحي بالمغرب الذي شهد ظهور مجموعة من الفرق المسرحية المحترفة، تتوقف عن العمل ويأخذ كل واحد من أعضائها طريقا ونهجا خاصا به.
مسرحية “سدينا” فرجة مسرحية من إخراج أمين ناسور بمساعدة الفنان عبد الفتاح عشيق مؤلف هذا العمل. أعد السينوغرافيا طارق الربح، والتأليف الموسيقي لياسر الترجماني، والإضاءة لعبد الرزاق آيت باها، وتصميم الملابس لكوثر بنسجاي. قام بتشخيص هذا العمل المسرحي: عبد الإله عاجل، حسن فولان، مريم الزعيمي، المهدي فولان، مونية لمكيمل، وأيوب أبو النصر.
*كاتبة صحافية وناقدة مغربية