بيت الفن
نعت مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة المفكر الراحل محمد سبيلا، معتبرة إياه أن الساحة الثقافية والفكرية المغربية والعربية فقدت واحدا من أعلامها برحيل الكاتب والمفكر محمد سبيلا “الذي شكل على مدى أربعة عقود من الزمان أحد المرجعيات المهمة في التفكير في قضايا الفلسفة المعاصرة، من قبيل موضوعات النهضة والحداثة والحريات وحقوق الإنسان، مثلما شكل ركنا من أركان المدرسة الفلسفية المغربية التي تبلورت في مرحلة ما بعد الاستعمار، وواكبت طموحات المغرب والوطن العربي في الحرية والكرامة والاستقلال بأبعاده المختلفة، وخاصة في المجال الثقافي والفكري الذي شكل مجال اهتمامه”.
وشددت المؤسسة في نعي سبيلا على أنها خسرت أحد داعمي المؤسسة برحيله، مثلما خسرت واحدا من أركان المدرسة الفلسفية المغربية (التي تشكلت من أسماء بارزة مثل محمد عابد الجابري، محمد عزيز الحبابي، سالم يفوت، محمد وقيدي…) الذين أغنوا المكتبة العربية بآرائهم وكتاباتهم؛ ونعت للرأي العام الثقافي المغربي والعربي الراحل الكبير، مقدمة خالص تعازيها إلى أسرته الصغيرة والكبيرة وإلى طلبته وقرائه ومحبيه، راجية له الرحمة والمغفرة والرضوان، ومشددة على أن مشروعه الفكري سيظل حاضرا في المشهد الثقافي وخالدا في الذاكرة لا يطويه النسيان.
بدأ الراحل محمد سبيلا حياته المدنية ناشطا في المجال الطلابي، تقول المؤسسة في نعيها، قبل تخرجه أستاذا لمادة الفلسفة في المؤسسات الثانوية، ليلتحق بعدها مدرسا بالجامعة حاملا معه هموم الدرس الفلسفي، خاصة في مرحلة إعادة تأسيسه على أسس جديدة عقب رحيل المستعمر الفرنسي عن البلاد، بحيث ساهم في تعريبه من خلال ترجمات مهمة للقارئ العربي، إذ كان يعتبر قضية التحرر من التبعية للغة المستعمر -دون انغلاق- شرطا في النهضة الفكرية المأمولة.
وبعد فترة معتبرة قضاها رئيسا لشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بكلية الآداب في فاس، انتقل الراحل إلى كلية الآداب بالرباط، حيث ترعرعت على يديه أجيال من الطلبة والباحثين، مواصلا التنقيب في المفاهيم التي انشغل بها في مشروعه الفكري الذي كان من ثمراته تقديم ما يربو عن عشرين مؤلفا أغنى بها المكتبة العربية التي كانت في حاجة ماسة إلى هذه المساهمات المفيدة.
وإضافة إلى مساهمته في تعريب الفلسفة والدرس الفلسفي قدم الأستاذ محمد سبيلا إضافات مفيدة عمقت النقاش في قضايا ومفاهيم فلسفية وفكرية شغلت العقل العربي في الخمسين سنة الأخيرة، منها كتابه الأول “مدارات الحداثة”، الذي تتالت بعده مؤلفاته التي نذكر منها سلسلة “كراسات فلسفية”، “الإيديولوجيا: نحو نظرة تكاملية”، “الأصولية والحداثة”، “المغرب في مواجهة الحداثة”، “الحداثة وما بعد الحداثة”، “دفاعا عن العقل والحداثة”، “الشرط الحداثي”… إضافة إلى الترجمات المهمة لمفكرين بارزين نذكر منهم لويس ألتوسير، مارتن هايدغر، بول لوران أسون، ميشال فوكو، كاترين كليمان وغيرهم.
وأكدت المؤسسة أن انشغال سبيلا بهموم الدرس الفلسفي وبالبحث الأكاديمي لم يمنعه من أن يكون فاعلا ومساهما في القضايا التي تشغل الرأي العام، إذ نقل قضايا الثقافة والفكر من الجامعة إلى حقل النقاش العام، مؤسسا للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة نهاية الستينيات من القرن الماضي، وللجمعية الفلسفية المغربية سنة 1994، التي تولى رئاستها والإشراف على مجلتها الدورية “مدارات فلسفية” التي أغنت الحقل الثقافي والفكري المغربي والعربي؛ مثلما كان وجها حاضرا في أنشطة اتحاد كتاب المغرب لمدة طويلة، محاضرا في المؤسسات والجمعيات والمناسبات الثقافية المختلفة، وكان آخر ظهور له في ندوة نظمتها المؤسسة عن موضوع الاهتمامات السياسية للمفكر محمد عابد الجابري.
تميز الراحل الكبير في الساحة الفكرية العربية بتركيز اهتماماته على موضوع الحداثة، منقبا عن شروطها، باحثا في عوائقها وفي أسباب عسر الانتقال إليها في الخريطة العربية، حاملا لواء التنوير والعقلنة، كل ذلك بلغة هادئة وعميقة تتجاوز منطق السجال الإيديولوجي العقيم ومآزقه المتشعبة، لغة الباحث المهموم بمشروعه، المؤمن بعامل الزمن والتاريخ في عملية التغيير، لا لغة الداعية المبشر برؤية خلاصية تتجاوز مشاكل العالم بجرة قلم أو جُمل إنشائية مؤثرة.
وهو الالتزام الذي تميز به الراحل محمد سبيلا حتى في تجربته الإعلامية التي خاضها في أكثر من منبر فكري أو إعلامي، ملتزما بالقيم التي سيج بها اهتماماته الفكرية والأكاديمية، ومبتعدا عن منطق الكتابة من أجل الكتابة الذي يجعل صاحبه حاضرا في المشهد بدون إضافة حقيقية.