بيت الفن
يتواصل حتى 30 غشت 2021 بمتحف فريد بلكاهية بمراكش، معرض فني يكشف وجها من وجوه الرسم المنسي للفنان المغربي الراحل فريد بلكاهية (1934 – 2014) المعروف بخصوبته وشاعريته، أختير له شعار “فريد بلكاهية، تحف فنية مرسومة: رشمات، منحوتات، طباعات ليتوغرافية وطباعات على الشاشة الحريرية”.
ويشكل المعرض المنظم بمبادرة من مؤسسة فريد بلكاهية ثمرة فنية للفنان المغربي الراحل، يؤرخ لمساره الفني، حيث تجاوزت لحظة الدهشة بتعبير الأدباء إلى مرحلة إبراز تجربته التشكيلية أمام الجمهور المهتم والنقاد الفنيين.
ويسلط المعرض الضوء على التحف الفنية التي أنجزها الراحل من خلال تجميع عدد من المطبوعات الفنية وتقديمها إلى الزوار تحت عنوان “رشمات فريد بلكاهية”، لاكتشاف التقنيات المختلفة المستعملة في إنتاج هذه الرشمات كالنحت والطباعة الليتوغرافية والطباعة على الشاشة الحريرية، وأيضا المطبوعات الأحادية والرقمية التي ظهرت مؤخرا.
ويجسد متحف فريد بلكاهية، الذي يقدم نماذج مختارة من أعمال الفنان التي تعبر عن مختلف اتجاهاته وتجاربه، بالإضافة إلى لمحة عامة عن أشكال التعبير الفني المتعددة التي اعتمدها الفنان التشكيلي المغربي، والوسائل والأدوات المتنوعة التي استخدمها خلال مساره الفني، إرادة الراحل في تقاسم إرثه الفني مع الأجيال المقبلة.
وتتوخى مؤسسة فريد بلكاهية من خلال هذا المتحف مواصلة إشعاع أعمال الراحل من خلال زيادة عرضها، وكذلك تشجيع البحوث المتعلقة بالتأثير الذي خلفه وأبرز فترات حياته، فضلا عن تعزيز الإبداع في كافة المجالات الفنية.
وفي هذا الإطار، أكدت رجاء بنشمسي زوجة الفنان الراحل ورئيسة مؤسسة فريد بلكاهية، أن الممارسة اليومية للرسم كانت تشكل شغفا عند الراحل، من خلال إنتاجه البياني المعبر على المستوى الرقمي والتنويري مما أثر على أعماله وحياته.
وأوضحت بنشمسي أن زوجها الراحل كانت له الرغبة في اقتسام هذا الولع مع الكل، وهو ما جعله يلجأ إلى تقنية الرشم التي مكنته من طبع عدد محدود من النسخ، وأعمال فنية متشابهة أو محسنة باليد، مشيرة إلى أن هذه الرشمات ترتبط بما هو حميمي وشاعري وبمؤلفات الفنانين التي تجمع بين النص والصورة والملفات التي كانت مصممة بتعاون مع شعراء من أصدقاء الفنان.
ويعتبر الراحل من رواد الفن المعاصر بالمغرب، حيث أصبح سفير الاستمرارية الفنية بالمغرب وذلك باهتمامه بالعلاقة التي تربط بين التقاليد الحية والحداثة.
وكان الفنان المغربي ومنذ سبعينات القرن الماضي، من المدافعين عن البيئة، وهو ما جسده في عمله عندما رفض استعمال مواد كيميائية واقتصر على الصباغة الطبيعية والمعادن.
وانطلق الراحل في عرض أعماله الفنية وعمره لم يتجاوز 15 سنة، وتابع دراسته في مدرسة الفنون الجميلة بباريس سنة 1955، ومن ثمة تم تعيينه سنة 1962 مديرا لمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، وسرعان ما أرسى أسس تعليم الفنون التقليدية الخاصة بالمغرب من أجل إعادة دمج الهوية المغربية التي ضعفت إبان فترة الحماية في التعليم الأكاديمي للفنون.
وترك الفنان الراحل بلكاهية بصمة مؤثرة في تاريخ التجربة التشكيلية المغربية والعربية عامة، لاسيما أن مشروعه البصري تشكل وبرز في فترة ما بعد استقلال البلاد عام 1956، وما نتج عن ذلك من تجارب تفتش في الجذور البصرية للبلاد، أمازيغية وعربية وأفريقية، مستفيدة من الفن الأوروبي دون أن تكون منساقة لتقليده أو الاستناد إليه.
ولأن تجربة بلكاهية الفنية كانت ولا تزال ملهمة للعديد من الفنانين الذين جايلوه أو الذين تتلمذوا على يديه، صدرت عنه العديد من الكتب التي تناولت سيرته ومسيرته، كان آخرها إصدار باللغة الفرنسية للباحثة نغم حديفة أستاذة تاريخ الفن في جامعة “باريس 1”، حمل عنوان “فريد بلكاهية”.
وتناول الكتاب الصادر عن منشورات “المركز الثقافي للكتاب” في الدار البيضاء في مايو من العام 2020 ليس فقط تجربة بلكاهية الحياتية الشخصية، والتي لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن الحركة الفنية في المغرب، بل سلط الضوء أيضا على عمله ودوره وتأثيره، وهو الذي تفرد عن مجايليه وأسس لنفسه أسلوبا ونمطا فنيا اعتمد فيه على التراث الشعبي والمخيال المغاربي والألوان الصحراوية، والرموز والنقوش التاريخية في المجتمع المغربي.
وكان بلكاهية قد غادر في بداية شبابه اليافع المغرب للدراسة في فرنسا، تحديدا في العام 1955، وهناك وبالتنسيق مع والده الذي كان لديه، هو الآخر، حس فني وعلاقات في فرنسا، استقبله الكاتب فرانسوا مورياك وعثر له على سكن مناسب، وبدأ دراسته في “مدرسة الفنون الجميلة”، وفي باريس التقى بالجيلالي الغرباوي، حيث تكونت صداقة جمعتهما كما جمعهما الفن.
وبعد أن أنهى بلكاهية الشاب دراسته في باريس، سافر إلى براغ، وهناك بدأت مرحلة أخرى مهمة في حياته، حيث ظل في المدينة التشيكية من 1959 وحتى 1962، ودرس التصوير السينمائي في أكاديمية المسرح، وعلى الرغم من أنه التقى بالبعض من أهم رموز الدوائر الشيوعية من الفنانين والكتاب مثل لويس أراغون وإلسا تريوليت وبابلو نيرودا، إلا أنه لم يصبح شيوعيا، بل ظل محتفظا بموقف المراقب من بعيد دون أن يعني ذلك أنه لم يصارع العالم المعاصر واضطراباته السياسية، ولكنه كان رافضا لفكرة الأسر الأيديولوجي.
وخلال سنواته في براغ، أنتج بلكاهية مجموعة من الأعمال التي تعبر عن مواقفه السياسية، فقدم أعمالا عن الثورة الجزائرية ولفت إلى أوضاع الأسرى فيها، ومن أشهرها لوحة “التعذيب”، كما رسم في خضم الحرب الباردة ليعبر عن دعمه لقضية كوبا الثورية من خلال لوحته “كوبا سي”.
وفي عام 1962 عاد بلكاهية إلى المغرب وظهر إصراره على تقديم تعريف للحداثة المغربية من خلال انفصاله عن لوحة الحامل والرسم الزيتي، مفضلا المواد التقليدية مثل النحاس وجلد الكبش وأصباغ الحناء، ما مثل احتفاء بماضي المغرب المتعدد الثقافات ما قبل الاستعمار، من خلال استخدام العديد من الرموز الأمازيغية والثقافة المادية الأفريقية كإشارات تيفيناغ وأنماط السجاد الأمازيغي والوشم وغيرها.
الكبش وأصباغ الحناء، ما مثل احتفاء بماضي المغرب المتعدد الثقافات ما قبل الاستعمار، من خلال استخدام العديد من الرموز الأمازيغية والثقافة المادية الأفريقية كإشارات تيفيناغ وأنماط السجاد الأمازيغي والوشم وغيرها.
وفي مارس الماضي أقام مركز بومبيدو في باريس، معرضا استعاديا للفنان المغربي حمل عنوان “من أجل حداثة أخرى” ضم مجموعة كبيرة من أعمال بلكاهية الذي قضى فترة من حياته في فرنسا، فاختلط بناسها وفنانيها وتأثر بهم كما أثر فيهم.
لكن المعرض التكريمي لم يتطرق إلى مرحلته الباريسية بل اهتم بمرحلتين من مسيرة بلكاهية: تمثلت الأولى في مرحلة براغ التعبيرية بدءا من عام 1959، ثم عودته إلى الدار البيضاء في الستينات مع تركيز على أعماله النحاسية.
وتمثلت أهمية المعرض في نفض الغبار أولا عن مرحلة منسية من تاريخ الفنان، والمتمثلة في مرحلة براغ وما رافقها من تأثر الفنان وتفاعله مع القضايا السياسية التي عاشها العالم حينها، ثم المرحلة الثانية، التي تتجلى في عودته إلى المغرب عام 1962 بحثا عن جذوره وولوجه تجربة التدريس التي أفرزت اسم بلكاهية كفنان عالمي يحتفى به دائما في المغرب وخارجه.
وهو الذي أجمع النقاد الغربيون منهم قبل العرب كونه الحارس الأمين للأصالة والمنفتح دائما على المعاصرة، حيث كان يقف في حدود “الما بين”، بينهما، منتميا على مستوى التقنية والفعل التشكيلي إلى الحداثة الغربية، لكن أساليبه وأشكاله ومواده ظلت دائما وأبدا متجذرة في عمق الحضارة المغربية.