محمد بنيس
1.
توفي صديقي الشاعر برنار نويل ليلة الثلاثاء، 13 أبريل، في الساعة الواحدة صباحاً أثناء النوم، وهو في مستشفى مدينة لون الفرنسية. أخبرتني رفيقته إيليان بوفاته مباشرة بعد مغادرتها المستشفى الذي توفي فيه.
كانت الساعة العاشرة ثمانية وخمسين دقيقة صباحاً. رسالتها كانت قصيرة وحادة. عندما قرأت الكلمات الأولى من الرسالة فزعت، لأنني كنت متعوداً على دخوله إلى المستشفيات وقضائه أسابيع فيها. كما كنت أعرف طبيعة الأمراض التي يعاني منها، ومطلعاً عل تفاصيل حياته اليومية في البيت وبرنامج العلاج في المستشفى.
وكان برنار يدرك أن الموت على بعد خطوات، وخصه بديوان “قصيدة الموتى” (2017). غالباً ما كان يكرر عليّ أن جسده يتصدّع وأنّ موته قريب. وكنت، من جانبي، أحاول طمأنته ومدّه بالأمل في الحياة. كان ينصت بهدوئه، ولا يجادل. وها هو بكامل وداعته يغادر العالم. رسالة إيليان كانت مفزعة. ومن شدة الفزع غار صوتي، رحلت عن مكاني واكتأبت.
أجلس الآن وأتأمل. يوم السبت المقبل سيتم الدفن في مقبرة قرية مورني، التي كان يسكنها في الشمال الشرقي، على منتصف الطريق بين باريس وبروكسيل. سيكون الحضور محدوداً في ثلاثين شخصاً، فقط، بسبب الجائحة. وأنا لا أستطيع السفر. أجلس وأتأمل صوره.
أجلس وأنصت إلى صوته، في مناسبات تتدفق أمام بصري. أنصت إلى نشيده وأصمت. صداقتي مع برنار لها أعماق المحيطات، كما أن لها تلقائية السلام على أقرب شخص إلى نفسي. كانت بيننا حياة عريضة من الصداقة والحوار والإنصات المتبادل.
آخر رسالة توصلت بها منه كانت في 18 آب/أغسطس من السنة الماضية. ثمّ، عندما لم يعد يستطيع الكتابة على الحاسوب، استمرّ التواصل بيننا عبر إيليان، التي كانت وفية في إخباري وإخبار أقرب أصدقائه بالوضعية الصحية، التي كانت تتفاقم، شيئاً فشيئاً.
وفي نهاية الأسبوع الأول من هذا الشهر (أبريل) أخبرتني بإمكانية التنسيق بيننا حتى أكلمه بالهاتف. لكن تدهور حالته في المستشفى لم يترك لنا أملاً في تبادل الكلمات، كما كان الشأن بيننا، كلما كانت الحالة الصحية لأحدنا تتطلب الحديث المباشر.
2.
تعرفت على شعر برنار نويل في نهاية الثمانينات، عندما قرأت ديوانه “ذكريات الشاحب، الاسم نفسه”، الصادر عن فاتا مورغانا سنة 1975. وفي اللقاء الشعري الفرنسيـ العربي في كل من غرونوبل ومراكش سنة 1987، حصل التعارف بيننا.
وفي اللقاء الثاني بين الشعرين في مدينة صنعاء، سنة 1989، تعمّق التعارف وبدأ الحوار. وبقوة الإعجاب بشعر برنار، بادرت بترجمة قصيدة “الاسم نفسه” ونشرها في العدد 39 من مجلة “الكرمل” (1991).
ثمّ توالى الحوار بيننا من خلال الترجمة المتبادلة، حيث ترجمت مختارات موسعة من أعماله الشعرية التي صدرت بعنوان “هسيس الهواء” (1998)، و”القدسي”، ديوان جورج باتاي، الذي جمعه برنار وكتب له مقدمة مطولة (2010)، و”كتاب النسيان” (2013)، وفي السنة ذاتها، ديوان “طريق المداد”، ثم أخيراً “الموجز في الإهانة” (2017).
وكان هو الآخر مبادراً باقتراح إنجاز ترجمة مشتركة بيننا لديواني “هبة الفراغ” (1999) مع كتابة مقدمة الترجمة الفرنسية، وبعده جاءت أعمال متلاحقة، هي “كتاب الحب” (2008)، “نحو الأزرق” (2012)، “المكان الوثني” (2013). راجعنا معاً ترجمة “ورقة البهاء” (2010)، وكتب مقدمة ديوان “نبيذ” (2020). ومن أجمل الأعمال المشتركة التي أنجزناها كانت الطبعة المزدوجة اللغة (العربية والفرنسية) لقصيدة ستيفان ملارمي “رمية نرد” (2007).
حياة من حوار. كانت المراسلات منتظمة بيننا في البداية عبر البريد العادي. وبعد أن انخرط في الأنترنيت أصبحت شبه يومية. نتبادل الحديث في الشعر، الكتابة، التاريخ، الثقافتين العربية والفرنسية، السياسة، الحروب، المناخ، الصحافة، الصحة، الأسفار، الأعمال التي يقوم بها كل واحد منا. كان يدعوني إلى لقاأت شعرية، ربما كان أكبرها الذكرى المئوية للشاعر بول إيلوار، في خريف 1994، ولقاأت مختلفة حول الشعر والفنون التشكيلية والدراسة، كان الأبعد فيها اللقاء حول أعماله في سوريزي (2005). عرفني على نخبة واسعة من أصدقائه، الذين أصبح بعضهم من أصدقائي. سافرنا إلى بلدان، وتبادلنا الزيارات بين المغرب وفرنسا.
3.
برنار من شعراء الجيل الذي أتى بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم سطوة الحركة السوريالية آنذاك، استطاع أن يختط لنفسه مقاماً شخصياً ينتسب فيه لكل من جورج باطاي وأنتونان أرطو، مع اهتمام واضح بستيفان ملارمي الذي يجسد الثورة الشعرية الحديثة، بالانتقال من السمعي إلى البصري في القصيدة. ظهرت المكانة الرفيعة لبرنار في أوساط الحركة الشعرية الفرنسية، منذ الخمسينات، حينما أصدر ديوان “مستخلصات الجسد” (1958).
وفي الستينيات تأكد تميزه ككاتب مع رواية “قصر صين” (1969)، التي أثارت ضجة كبرى على إثر المنع الذي تعرض له الكتاب بتهمة “المس بالأخلاق”، والمحاكمة التي وقف إلى جانبه فيها أغلب الكتاب الفرنسيين الكبار. من أهم أعماله “معجم الكومونة” (1978) الذي أبدع من خلاله طريقة جديدة في كتابة تاريخ كومونة باريس. ومن أهم أعماله، أيضاً، نصوصه عن ضمائر الشخص التي تعتمد المونولوج، ويسميها “المونولوجات الخارجية”، وهي التي يعتبرها إبداعه في الشكل الأدبي.
ولديه العديد من الكتب عن الجسد، وخاصة العين والنظر. فالجسد هو الذي انشغل به برنار في كتاباته. جسد ملموس، حاضر. ومنه بنى رؤية معرفية لها التفاعل الحسي بين الجسد والكتابة. بهذه الكتب أعطى برنار للجسد ما أضافه من جديد إلى الكتابات الأدبية والفلسفية التي جعلت من الجسد شجرة الحياة والحيوية. كما أن برنار نويل من كبار الكتاب عن الفن التشكيلي، حيث أصدر عشرات المؤلفات التي تتناول أعمال أهم الفنانين الفرنسيين، في مقدمتهم هنري ماتيس وأندري ماسّون وفرنسوا رُووان. وهناك عدد كبير من الأعمال التي أنجزها عن كتاباته فنانون تشكيليون ومصورون. في السنوات الأخيرة، انكبت مجموعة من المحللين النفسانيين على بعض كتاباته، يقرأونها ويقيمون حولها حلقات دراسية. بكلّ ذلك تحقق لبرنار محيط من الأصدقاء الأوفياء، شعراء وكتاباً وفنانين وناشرين. في نهاية السنة الماضية، أشرفت نواة من هؤلاء الأصدقاء على تكريمه، بمشاركة ستة وثلاثين شاعراً وكاتباً وفناناً في كتاب فني مشترك، تسلمه ليلة عيد ميلاده التسعين في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. تصفح ببطء واستمتاع جميع نصوص الكتاب، ووعد بكتابة كلمة شكر لجميع المشاركين.
4.
وهو شاعر الحرية، لأنه كان دائماً ذا مواقف في الكتابة وفي الحياة العامة، إلى جانب القضايا العادلة. كان له في البداية التضامن مع الثورة الجزائرية، وتعبيراً عن ذلك التضامن كتب روايته “قصر صن”. وتضامن في مرحلة لاحقة مع الفلسطينيين وثورتهم وقضيتهم. وكنت باستمرار أترجم له ما يكتبه عن فلسطين والفلسطينيين. وعندما أخبرته بكتابي عن “فلسطين، ذاكرة المقاومات” لم يتوقف عن السؤال كل مرة عن موعد الصدور. ولا ننسى أنه صاحب مفهوم “الرقابة على المعنى”، الذي وظفه لتحليل الوضعية التي أصبحت بها البرجوازية الفرنسية تمارس القمع بدون اللجوء إلى العنف. وحول هذا المفهوم أنشأ برنار نسقاً فكرياً متكاملاً لنقد السلطة الفرنسية لما بعد ثورة 1789، ممتدة في تاريخها، حتى السنوات الأخيرة.
5.
برنار نويل، الذي تعلّم الفرنسية في المدرسة وليس في البيت لأنه من أبناء الجنوب، كان حريصاً على نقائها، شديد الاحترام لبنيتها وتقاليدها، فيما هو كان يبدع في كل شعر يكتبه، مثلما كان دائم التفكير في لغته التي يكتب بها، لحد أننا نجده دائماً يتجنب الانسياق وراء العادة في أي شيء مما يكتب. وكان، في الوقت نفسه، حريصاً على الأشكال الشعرية الفرنسية، منتقداً أيَّ تلاعب مجاني بها. وقارئ ديوانه الأخير “طريق المداد” يلمس هذا الشغف بالبيت الشعري والتمسك به.
6.
وهو، كما يراه القريبون منه، إنسان متواضع، خجول، صامت، كريم ونبيل. لم يكن يتسابق نحو الإعلام، ولا نحو أي امتياز. سلوكه، الشبيه بسلوك النسّاك، كان يحببه أكثر فأكثر إلى نفسي، ومنه كنت أتعلم الأبعد في الثقافة الغربية. صداقتنا امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، كان فضله عليّ فيها كبيراً. كان ينصت إليّ بكل هدوء، يسأل، يبحث.
وبدوري كنت أفضل أن أصمت عندما يأخذ هو في الحديث، لأنه كان يتحدث عمّا لا أعرف أو بطريقة تجدد الرؤية إلى ما أعرف. صداقته مع مجموعة من الشعراء والكتّاب العرب كانت لا تنقطع. وهو من الكتّاب الفرنسيين القلائل الذين كانوا منفتحين على الثقافة العربية، وكان حريصاً على قراءة كل ما يصل إليه منها ولا يبخل بالكتابة عنها، وخاصة عن الشعر العربي الحديث. بل كان يبتهج كلما صرّح لي بأنه أصبح عربياً.
وهناك أدبه في معاملة الآخر. فأنا كنت دائماً أندهش للاحترام الصارم الذي كان يعامل به المراسلات. فهو كان يجيب فور استلام أيّ رسالة مني. وعندما كان يعتزم السفر أو عيادة الأطباء كان يخبرني بمواعيده. وفي كل لقاء بيننا كنت أتعلم وأتعلم. كان يحرّضني على التأمل في الثقافتين الغربية والعربية، في المثقفين والمؤسسات.
7.
نعم، كان برنار يائساً من مجيء الثورة التي تحرّر الشعب الفرنسي، ومن الثورة التي تحرر الشعوب المستعْبَدة. وكنت في مقالة لي عنه تناولت كتابته من خلال عنوان “طاقة اليأس”. يأس برنار لم يكن استسلاماً. كان طاقة فكرية خلاقة، تهجج التأمل في مصير السياسة والكتابة والأدب، في زمن استبداد الإعلام وسيادة ثقافة الاستهلاك.
كبيراً كان برنار نويل، وكذلك سيبقى. لم ينصفه زمنه بما يستحق من التأمل في أعماله. وها هي كتابات أخذت تعترف له، بعد وفاته، بأنه من أكبر كتّاب نهاية القرن العشرين. على أن أعماله تظل غريبة في الثقافة العربية، التي لم تتعود بعد على اجتياز حاجز الإعلام، الذي وحده يجعل منا قراء لما يريد له أن يكون مجالاً للقائنا بالغرب وثقافته، ذات التاريخ العريق في ممارسة النقد والدفاع عن الحرية.