عمل إبداعي يمزج ببراعة كبيرة بين أنواع أدبية مختلفة في قالب واحد
بيت الفن
فاز الكاتب إيرفيه لو تيلييه بجائزة غونكور، أرقى المكافآت الأدبية الفرنسية، الاثنين 30 نونبر 2020 عن روايته “لانومالي” التي نشرتها دار “غاليمار”، إثر مراسم أجريت عبر الفيديو للمرة الأولى بسبب جائحة كوفيد – 19.
وحصل لو تيلييه البالغ 63 عاما، وهو حائز على شهادة جامعية في الرياضيات وصحافي سابق ورئيس جمعية “أوليبو” الأدبية، على ثمانية أصوات مقابل اثنين لرواية “ليستوريوغراف دو روايوم” لماييل رونوار.
في تصريح له إثر تتويجه قال الروائي الفائز في رسالة عبر الفيديو بجانب ناشر كتابه أنطوان غالميار “لا نتوقع يوما الفوز بجائزة مثل غونكور. لا نكتب بهدف الحصول عليها في البداية، كما لا يمكننا تصور الفوز بها”.
وتدور أحداث رواية “لانومالي”، وهي ثامن روايات لإيرفيه لو تيلييه، حول تبعات حدث غريب يتمثل في تسيير رحلتين بين باريس ونيويورك صودف أنهما تحملان الركاب أنفسهم بفارق زمني لا يتعدى بضعة أشهر. وتمزج الرواية ببراعة بين أنواع أدبية مختلفة بينها الرواية السوداء والسرد الأدبي الكلاسيكي.
وقال لو تيلييه “الفكرة تكمن في أنه بما أن ترامب موجود وهو سبب دمار العالم، فإن نظرة الكتاب تتمحور حور تقديم نسخة أخرى من العالم يكون فيها بايدن رئيسا”.
وعلق الكاتب الفرنسي من أصل مغربي الطاهر بن جلون العضو في أكاديمية غونكور، في كلمة عبر الفيديو “هذا الكتاب سيسعد الكثيرين في العالم لأننا نعيش في مرحلة لا تسر القلب كما يعلم الجميع. وهذه الرواية ستبهج الكثيرين. شكرا لكاتبها”.
وتسرد رواية “لانومالي” المتوجة بجائزة الغونكور هذا العام (التي يمكن ترجمتها إلى “مسألة شاذة”) حادثة غريبة: في جوان 2021 لم تسمح سلطات مطار كينيدي بنيويورك لطائرة بوينغ 787 تابعة للخطوط الجوية الفرنسية قادمة من باريس في الرحلة 006 بالنزول، وحولت وجهتها نحو قاعدة عسكرية، حيث خضع طاقمها وركابها للتفتيش والتحقيق على أيدي خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة الاستخبارات الوطنية، ووكالة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية.
كلهم قدموا ليعرفوا ما إذا كان ركاب تلك الرحلة مخادعين، أو مستنسخين، أو أرواحا عادت إلى الحياة، ذلك أن نفس الرحلة ونفس الطائرة ونفس الطاقم ونفس الركاب حطوا بمطار كينيدي قبل ثلاثة أشهر، أي في مارس 2021. وانتهى الخبراء إلى ضرورة التكتم على المسألة، ريثما يتوصلون إلى حل هذا اللغز، وقد عبر أحد رجال الـ”سي.آي.أي” عن استغرابه بقوله “لا أفهم شيئا. هل حطت نفس الطائرة مرتين؟”.
أما الركاب فلم يفهموا في البداية سبب استقبالهم بتلك الكيفية، وكأنهم ناجون من عملية احتجاز رهائن، وكل ما يتذكرونه أن رحلتهم تخللها اضطراب، حيث واجهت الطائرة، وهي تحلق فوق المحيط الأطلسي، عاصفة من البرد قبل أن يعود الزمن إلى سيره الطبيعي، غير أن الزمن هنا هو زمن الرصد الجوي، أما الزمن الحقيقي فقد تغير، إذ كانوا يعتقدون أنهم في شهر مارس والحال أنهم مروا مباشرة إلى شهر يونيو. المشكل أنهم سبق لهم أن نزلوا جميعا في مطار كينيدي بنيويورك منذ شهر مارس، ومضى كل واحد منهم إلى غايته.
من يكون إذن هؤلاء الذين نزلوا هذه المرة بنفس المطار ونفس المدينة؟ وها أن لكل مسافر مثيلا يشبهه في كل شيء، بل لعله هو شبيه الشخص الذي سبقه إلى هذه المدينة، أو نسخة منه. أمام هذا اللغز المحير، بادرت السلطات الأمريكية بتفعيل بروتوكول 42، ذلك الذي عهدت به قبل عشرين عاما، مباشرة بعد أحداث 11 شتنبر، لمجموعة من نوابغ الطلبة من أجل مراجعة سلسلة التحكم عند حلول كارثة، وتعديلها على نحو يسمح باستعمالها لمواجهة حدث طارئ أو وضع غير مسبوق. وهو ما ينطبق على هذه الحالة.
ويلفت الكاتب التونسي أبوبكر العيادي إلى أنه على هذه القاعدة التخييلية بنى الكاتب حكاية مذهلة عن تماثل طبق الأصل طالما أثار جدل رجال الدين والسياسة والعلماء والفلاسفة، فالأشخاص الذين يتبع القارئ مسارَهم انقطعوا بادئ الأمر عن كل اتصال إعلامي، ثم اكتشفوا أن لوجودهم مصيرا لا يعرفون هل عاشوه أو هم يعيشونه، فهم أصغر من أعمارهم بثلاثة أشهر من هويتهم التي سوف يطبق عليها بروتوكول 42.
ويضيف “سوف يعلمون، وهم يواجهون أنفسهم بأنفسهم، أن حياتهم تغيرت في تلك الأشهر الثلاثة، في الاتجاه الأحسن أو الأسوأ. أحدهم مثلا انتحر، ولكن مثيله لا يزال يعيش، وأخرى صارت حاملا، في حين أن مثيلتها لم تحمل، وزوجان انفصلا في شهر يونيو، ولكنهما في شهر مارس لم يكونا منفصلين، طفلتان هما في الأصل طفلة واحدة تتحدثان مع بعضهما بعضا عن سر لم يكشف بعد، طفل يجد نفسه أمام أمين.. فهل يمكن ترميم ما تقوض وإنجاح ما فشلنا في تحقيقه؟ وهل نريد ذلك حقا؟”.
ويتابع العيادي أن الكاتب لا يكتفي بوضع تلك المصائر جنبا إلى جنب، وتصوير ملامح تلك الشخصيات الواحدة تلو الأخرى بشكل عابر، وإنما يخلق روابط بينها، ويغوص في سرد كثير منها، ولو أن كل شخص يتبع قوسه السردي الخاص، حتى أنه لو تم عزله لشكل نسيج رواية على حِدة. مثل بلاك، القاتل المحترف الذي يمارس حياة مزدوجة، وفكتور ميزل صاحب المؤلفات العديدة، الذي كتب آخر كلمة في مؤلف قصير يتحدث عن طائرة ومسألة شاذة، مثلما يتحدث عن التنوع، وأراد أن يكون عنوانه “لو أن مئتين وأربعة وأربعين مسافرا”، في إشارة إلى رواية إيطالو كالفينو “لو أن مسافرا في ليلة شتوية”.