محمد بنيس
ثمة ذكريات ولحظات ومواقف في الحياة يستعصي نسيانها أو إخفاء الجميل منها. ذلك ما استخلصته من حياتي، ومن تفاعلي مع كتاب وأدباء وفنانين. استخلصت، وأنا أعلم نفسي كيف أقاوم الجحود والإلغاء السائدين في حياتنا الثقافية.
وكانت وفاة محمود درويش صدمة أيقظت من جديد عوالم تقاسمتها وإياه عبر أكثر من ثلاثين سنة. وفي الحالات جميعها ظل ما مضى يتجاذب، خلال الأيام الأولى من رحيل محمود درويش عنا. على أنني، هنا، أريد أن أقدم شيئا من الوقائع الفريدة في ثقافتنا العربية الحديثة التي عشناها معا بأنفاس ملحمية. أعني هنا استضافة محمود درويش لمجلة «الثقافة الجديدة» في مجلة «الكرمل».
«الثقافة الجديدة» مجلة مغربية، أدبية، فكرية، فنية، كنت مديرا مسؤولا عنها، وإلى جانبي هيئة تحرير مؤمنة بالفكرة. انطلقت المجلة سنة 1974 بعددها الأول واستمرت في الصدور عشر سنوات. غابت عن الحياة الثقافية حين أصدر وزير الداخلية السابق إدريس البصري يوم 25 يناير 1984 أمرا بتوقيفها، على إثر الأحداث الدامية التي تفجرت يوم 19 يناير في عدة مدن مغربية. ومن نتيجة التوقيف، تمت مصادرة نسخ العدد الثلاثين الذي كان صدر في ديسمبر 1983 وحجزها من السوق. اختصار لا يكفي لمن لم يسبق له أن عرف هذه المجلة المغربية وما كان لها من دور في إحداث حركية مست الثقافة المغربية، بين السبعينيات والثمانينيات.
بين الحزن الذي يبلغ الحداد على التوقيف، وبين الرعب من تدمير ما هو أكثر من مجهود، سارعت إلى المطبعة. تطلعت إلى المكان المخصص للتصفيف فرأيت ملفات، ثم بادرت ووضعت يدي على الملف الأول، الذي تبين لي من خلال لونه أنه ملف المجلة. حملت المواد كما هي وغادرت المطبعة.
في مساء الاثنين من الأسبوع الموالي، رن الهاتف من تونس. صوت محمود درويش وهو يسألني عن مصير مواد العدد الجديد من المجلة. ذكرت له أنها موجودة، وأغلبها بحوزتي. وهي خاصة عن المسألة الثقافية في المغرب. مباشرة، ومن دون أي تلكؤ، قال لي إن مجلة «الكرمل» مستعدة لاستضافة «الثقافة الجديدة» في عددها الجاهز. ثم أضاف: «يمكنني أن آتي شخصيا إلى الدار البيضاء يوم الخميس، وأتسلم المواد منك في حدود يومين لأعود يوم السبت». شكرته بحرارة وقلت له إنني سأكون بانتظاره في المطار.
لم أنتظر. في الصباح الباكر لليوم الموالي، قبل الثامنة، في بيت عبد الله راجع اجتمعنا. عبد الله راجع ومحمد البكري ومحمد العشيري وأنا. تكلمنا بشأن الاستضافة واعتبرنا موقف محمود درويش انتصارا على من يريدون إبادة «الثقافة الجديدة» وهذا العدد بالذات.
يوم الخميس ظهرا وصل محمود من تونس. استقبلته في مطار محمد الخامس واتجهنا مباشرة إلى بيتي. عندما دخل وجد خلية تعمل من دون توقف. كان فرحا بما قمنا به. يومان من العمل المتواصل، نعمل ونضحك. نرى السماء صافية أمامنا ونتابع العمل. كنا كما لو عثرنا على كنز في أرض جرداء. كؤوس القهوة. والأتاي. والسجائر. بريق في عيوننا فرحا بما ننجز. ومحمود يكاد لا يفارقنا. ينظر إلينا ونحن نعيد الكتابة أو نقوم بالتصحيح. يأخذ مواد ويقرأها أو يراجعها. يرتب معنا. ينظم. يعلق على مقاطع أو فقرات. وضحكاتنا ترتفع. فنحن في عملنا ننسى ما قام به السيد الوزير. وننسى الرعب الذي عشناه من فقدان المواد. الآن حلمنا في إصدار هذا الملف الفريد قريب من التحقق. عملنا دائب. يومان من العمل بحضور محمود.
يوم السبت صباحا، حوالي الساعة الثانية عشرة، كان الملف جاهزا. لم أصدق السرعة التي أنجزنا بها العمل وأنا أرى الملف ينتقل من يدي إلى يدي محمود درويش، مادة مادة. الكل مهيأ بوضوح وأناقة لا يبقى معهما سوى القيام بالتصفيف النهائي. تلك الحوارات المطولة مع عبد الله إبراهيم وعبد الله كنون ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، محاور لم يسبق من قبل تناولها أو البحث فيها. هناك أيضا عبد الكبير الخطيبي ومحمد عياد وعبد اللطيف اللعبي وأحمد الرضاوني ومحمد شبعة ومحمد القاسمي وأنا. حقول في البحث العلمي والتاريخ الثقافي الوطني والقراءة والنقد الأدبي والفنون التشكيلية. كل ذلك في ملف انتقينا مواده بعناية من أجل أن يكون مدخلا موسعا إلى إعادة التفكير في أسئلة التحديث الثقافي في المغرب.
وفي العدد الحادي عشر من مجلة «الكرمل» الصادر بنيقوسيا في ربيع 1984، نشرت مواد العدد في ملف مستقل تحت اسم المجلتين معا بعنوان «الثقافة في المغرب»، في 160 صفحة. وقد وضع محمود كلمة تقديمية مرنة، جاء فيها «هذا الملف الخاص عن المسألة الثقافية في المغرب، تم إنجازه نتيجة التعاون بين مجلة «الكرمل» ومجلة «الثقافة الجديدة» المغربية، ولكن توقف الزميلة المغربية عن الصدور جعل «الكرمل» تنفرد بنشر أهم موضوعات الملف».
وكان توزيع العدد حدثا. سبعة آلاف نسخة وصلت إلى المغرب وبيعت في وقت وجيز. وكما كان محمود درويش نبيلا باتخاذ موقف التضامن، كان، كما عرفته، كريما مع المجلة، حيث تكفل بتسديد ديون المطبعة على المجلة وقيمتها بلغت آنذاك سبعة وعشرين ألف درهم.
استضافة عدد من «الثقافة الجديدة» في «الكرمل» كان تعبيرا عن موقف التضامن مع قضية ثقافية ومع حرية التعبير. وأنا أحتفظ لمحمود درويش بهذا الموقف النبيل، وأظن أن الثقافة المغربية ستذكره له.
لقد كان محمود من بين أبرز الواعين بما أخذت الثقافة المغربية تضيفه من جديد في الفكر والإبداع والدراسة والبحث إلى الحياة الثقافية العربية. وهو كان قريبا من المغاربة، يرتبط بعدد منهم ارتباط الصداقة ويقرأ لهم ويتبادل وإياهم التقدير.
وفي الاستضافة ما هو دال في زمن كان التضامن فعلا يواصل المقاومة الثقافية بين أفراد ليس لهم سوى كفاءاتهم وجرأتهم. بهذا أستعيد تلك اللحظة، لا أتذكرها لمجرد الحنين أو التفاخر.
تضامن محمود درويش مع قضية ثقافية في المغرب. وهي تشير إلى أن لمحمود حياة لم يكن يشهرها أمام الناس. كان لسلوكه أشكال من المقاومة. هو كذلك كان. بطريقته هو وفي مناطق وبلاد، ومع عدد من الكتاب والمثقفين وفي علاقاته الاجتماعية التي أنا شاهد على بعضها. وأصدقاء محمود درويش الأوفياء في أكثر من مكان يعرفون هذا الركن الظليل من حياته.
حياة محمود درويش بهذا المعنى غنية مثلما هي أعماله الشعرية والنثرية على السواء. وإذا كنت من بين الذين لا يخلطون بين حياة الكتاب وأعمالهم، فإنني أجدني على وفاق مع الذين يرون أن ما يقوم به كتاب ومثقفون من أجل كرامة الثقافة وحريتها فعلٌ يحتاج هو الآخر إلى التدوين والتعريف. أستعيد تلك اللحظة في صورها المتشابكة. وأنتخب من تلك الصور ما أود أن يبقى اعترافا حيا بما كان لمحمود من قيم إنسانية رفيعة هي من صميم سلوكه ومواقفه مع المثقفين ومع سواهم. كلمات الحرية والوفاء كانت بداية سفر آخر، مقبل من المستقبل، في ليل لم أتنازل فيه عن معنى الكلمات. وليس لي غير الوفاء لما كنت يا محمود وما فعلت.