نوستالجيا مسرحية تستدعي تراث مصر السينمائي
حنان عقيل*
في أزمنة الشتات والتردي والهويات المسلوبة، يصبح الرجوع إلى الماضي بكل ما شهده من انتصارات على هزائم كُبرى، وقوة في مواجهة المُستلِبين وإيمان بمقدرة الذات، آلية نفسية دفاعية، من خلالها تستطيع الذات تضميد جراحها والتفكُر في مرجعيات أزمتها المُستفحلة، علّها تستطيع استعادة ذاتها ومواجهة الاستلاب، من هذا المُنطلق يأتي العرض المسرحي “سينما مصر” الذي يخرجه خالد جلال، وعرض في مركز الإبداع الفني بالقاهرة.
يرتكز العرض المسرحي “سينما مصر” للمخرج خالد جلال على استدعاء تراث مصر السينمائي الذي يُمثل حقيقتها وأصلها وحضارتها، تلك السينما التي توغّلت في كل بيت عربي في عقود سابقة والتي تعيش حاليا أزمة مُستفحلة باتت هويتها فيها عصية على التعيين في ظل محاولات مستمرة لطمسها وتشويهها وإخراجها بشكل لا يليق بتاريخها وأصلها، من هنا تتشكل الحبكة الدرامية للعرض المسرحي على فكرة الذاكرة المفقودة التي تتمّ استعادتها عبر العرض المسرحي الذي امتد لما يقرب من ساعتين متواصلتين.
لا يقوم العرض المسرحي الذي يؤديه 67 ممثلا وممثلة على قصة مسرحية متكاملة، لكنه يروم تسليط الضوء على فكرة واحدة من خلال عدد من المفردات المسرحية البسيطة والمُرتكزة على أفلام سينمائية بشكل أساسي، تأتي انطلاقة الحبكة المسرحية من فيلم “الليلة الأخيرة” الذي قامت ببطولته فاتن حمامة عام 1963، والذي تدور أحداثه حول البطلة نادية التي فوجئت بأنها صارت في زمان آخر بهوية لا تعرفها واسم ليس لها، فتحاول التعرّف على ذاتها الحقيقية واستعادة ذاكرتها طوال أحداث الفيلم.
تصير تلك الفكرة بتفاصيلها محور ارتكاز حبكة مسرحية “سينما مصر”، وتضحى نادية رمزا لهوية سينما مصر المفقودة والمُفتقدَة، وربما تتجاوز رمزية السينما لتصير تعبيرا عن وطن بأكمله يُجاهد لاستعادة هويته.
وانطلاقا من فكرة مُستمدة من فيلم سينمائي قديم تُبنى الحبكة، ويبني المخرج كذلك الاسكتشات الدرامية والاستعراضات المسرحية، ليصبح العرض المسرحي استعادة نوستولجية مُتواصلة لأفلام مصرية حُفرت في وجدان المُشاهد، وشكّلت ذاكرة طفولته وشبابه.
مشاهد سينمائية متتالية من أفلام شهيرة بعضها يرتبط بأحداث تاريخية مثل “الناصر صلاح الدين” و“ناصر 56” و”أيام السادات”، وأخرى كلاسيكيات سينمائية مأخوذة عن أعمال أدبية عظيمة مثل فيلم “دعاء الكروان” الذي كتب قصته طه حسين، أو “زقاق المدق” و”بداية ونهاية” المأخوذتين عن أعمال أدبية لنجيب محفوظ، أو تلك الأفلام الكوميدية التي حُفرت حواراتها في كل ذاكرة وفي الآن ذاته لا تزال قادرة على رسم البسمة على الشفاه بنفس القدر مثل “ابن حميدو” لإسماعيل ياسين و”سلامة في خير” و”غزل البنات” لنجيب الريحاني.
لم يتبع العمل المسرحي ترتيبا كرونولوجيا في عرض المشاهد السينمائية المُختارة، لكنه حاول باستمرار ربطها بالفكرة التي يُريد إيصالها، من خلال المزج بين محاولات نادية، التي تؤدي دورها أكثر من ممثلة، لاستعادة ذاكرتها والمضمون الذي تحويه المشاهد، فإن حاول رفاق نادية القُدامى تذكيرها بأنها كانت مصدر كل بهجة تُستدعى المشاهد الكوميدية الخالدة من الذاكرة المدفونة، وإن حاولوا تذكيرها بأنها كانت مصدرا للقيم والثبات والدفاع عن الحق اعتمدوا على مشاهد من الأفلام التاريخية والدينية الخالدة، بينما تستدعى مشاهد الحُب الخالدة لتذكير نادية بأنها من علمتهم معنى الحب والوفاء والإخلاص.
يبدأ العرض المسرحي وينتهي باستدعاء الاستعراض الشهير “حلاوة شمسنا”، الذي قُدِّم في فيلم “غرام في الكرنك” في محاولة لجذب المشاهد لتلك الدائرة من النوستالجيا والارتباط بالتاريخ الفني لمصر، وعبر ما يزيد عن أربعين مشهدا سينمائيا بُني العرض المسرحي الذي حاول أبطاله الالتزام بتقديم تفاصيله الأصلية سواء من حيث الحوار أو الأزياء أو الأداء الذي جاء متفاوتا ومتراوحا ما بين القوة وبعض الوهن.
اعتمد العرض المسرحي على ديكور مسرحي بسيط جدا وهو ما أفاد في سرعة الانتقال ما بين المشاهد المُتلاحقة، كما وظف العرض الإضاءة بشكل جيد للتعبير عن أجواء المشهد، فاستخدمت الإضاءة الحمراء في المشاهد الرومانسية والإضاءة الخافتة للتعبير عن الأجواء الليلية المُظلمة مكانيا ونفسيا، وكذلك كانت الإضاءة الساطعة محاولة لنقل أجواء البهجة والمرح في المشاهد الكوميدية والاستعراضات المُبهجة.
وجاءت الموسيقى والأغاني في العمل المسرحي لتُشكل اللحمة الرئيسية بين أجواء الفيلم القديم وحضوره في الفكرة المسرحية الحديثة، ليمزج العرض ما بين عدد من الأغاني القديمة بصوت المُغني الأصلي لها والأداء الجديد لها من قِبل أبطال المسرحية، وهو ما أسهم في إضفاء قدر من الحيوية على الجو العام للمسرحية، ولاسيما مع شهرة هذه الأغاني والاستعراضات الراقصة ومعرفة المشاهد لها وكونها محورا أساسيا في الفيلم السينمائي القديم الذي يُستعاد في العرض، وهو ما يُمكن ملاحظته بوضوح في عدد من الأغاني مثل “يا عيني ع الولد” من فيلم “شيء من الخوف” الذي قامت ببطولته شادية ومحمود مرسي، وكذلك أغنية “بلاش عتاب” التي غناها عبدالحليم حافظ في فيلم “معبودة الجماهير”.
نادية بطلة فيلم “الليلة الأخيرة” تتحوّل في المسرحية إلى رمز لهوية سينما مصر المفقودة والمُفتقدَة، لتغدو تعبيرا عن وطن بأكمله يُجاهد لاستعادة هويته
خلافا لما قدّمه خالد جلال في مسرحيته “قهوة سادة” قبل عشر سنوات، من رثاء لضياع هوية مصر الحقة والمعاني والقيم النبيلة التي فقدتها مثل انهيار اللغة العربية وانتشار القُبح والفن المُتردي والجهل الديني والثقافي، لم يتوقّف عرض “سينما مصر” على فكرة الرثاء لكل جميل مُفتقد أو ضائع أو مهمش بل أصر على مبدأ القوة والمواجهة والإصرار على الصمود والبعث من جديد لتمارس دورها التاريخي والحضاري.
وينتهي العرض بالتأكيد عن أن نادية لم ولن تموت، ربما يحاول البعض تشويهها دفاعا عن مصالحهم، لكنها ستظل تقاوم وتُناضل لتبقى تلك الشعلة التي يلتف حولها الجميع في الظلام، لتظل الذاكرة الحية المُعبّرة عن جوهرنا الحقيقي، ولتعود مرة أخرى قوية وأبيّة لممارسة دورها في تنمية الوعي وإيقاظه، وتقف دوما شامخة في مواجهة كل من يحاول تزييفها، لأنها قوية بتاريخها وأصلها اللذين مهما تراكم الغُبار عليهما فلن يزولا أو يفنيا.
* كاتبة مصرية