تنطلق من تطوان بمشاركة 80 رواقا وفضاء للعرض من مختلف جهات المغرب
بيت الفن
تنظم وزارة الثقافة والشباب والرياضة (قطاع الثقافة) يوم الجمعة 20 دجنبر الجاري الدورة الـ14 “لليلة الأروقة” بمشاركة 80 رواقا وفضاء للعرض من 40 مدينة تمثل مختلف جهات المملكة.
ويتميز الافتتاح الرسمي لـ”ليلة الأروقة” يوم الجمعة المقبل برواق مركز تطوان للفن الحديث، بالاحتفاء بأحد الأسماء المرموقة من الرعيل الأول للفن التشكيلي المغربي، سعد بن الشفاج، الذي سيتم تكريمه من قبل وزارة الثقافة والشباب والرياضة (قطاع الثقافة) بهذه المناسبة.
وسيستمر التجوال الليلي بزيارة مجموعة من المعارض التشكيلية، حسب المسار التالي: مركز تطوان للفن الحديث، رواق بيرتوتشي، مدرسة الصنائع والفنون الوطنية بتطوان، رواق معهد سيرفانتيس، رواق المكي مغارة، رواق الشهاب، رواق المركز السوسيو-ثقافي ورواق الفن المودن.
ويعد هذا الحدث، حسب بلاغ للوزارة موعدا فنيا متميزا يترقبه سنويا العديد من الفنانين و المهتمين ومسؤولي الأروقة وعشاق الفن التشكيلي، فهو يشكل فرصة حقيقية للعديد من الأروقة لعرض أعمال فنية لفنانين مشهورين ومواهب شابة قصد التحفيز على الإبداع في مختلف الميادين الفنية وتيسير التواصل والتقارب بين الفنانين من مختلف الأجيال والجنسيات، والاحتفاء بالإبداع التشكيلي بكل مذاهبه ومدارسه وأساليبه.
يشار إلى أن الفنان التشكيلي سعد بن الشفاج يعد، يعد حسب الناقد الفني فريد الزاهي “إلى جانب المكي مْغارة من أعمدة مدرسة تطوان التي داع صيتها. فهو أكثر الفنانين المغاربة هوسا بالتجريب، في وقت كانت فيه رموز مدرسة الدار البيضاء (بلكاهية والمليحي) تستحوذ على الفن في المغرب”.
سعد بن الشفاج (من مواليد 1938) فنان صموت لا يتقن من الكلام غير أن يتحدث باقتضاب عن نظرته للفن. قضى حياته مدرسا بتطوان، مسقط رأسه، يؤسس لنهضة فنية سوف تؤتي ثمارها مع أسماء كثيرة كمحمد الإدريسي وعبد الكريم الوزاني ثم جيل المعاصرة كحسن الشاعر ويونس رحمون وغيرهما. تجربته المتفردة تشبه إلى حد كبير تجربة صديقه المكي مغارة، خفت أوارها لمدة قبل أن يعود، مثل طائر الفينيق، لمسرح التشكيل بقوة عهدناها فيه منذ البدايات.
لا يمكن للمرء، حسب الزاهي، إلا أن يعود لفترة السبعينيات ليتأمل القوة التي كانت لهذا الفنان، الدارس في المدارس الإسبانية العليا للفنون الجميلة، ثم بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، كي يقدّر الإرث الذي تركه والأثر الذي أحدثه في الساحة التشكيلية الوطنية. كانت أولى معارضه في أواسط الخمسينيات تعبر عن قدرة فائقة على الرسم وعن سلاسة في صوْغ الشخصيات الواقعية. الرسم ديدنه، وموهبته فيه حررته من الواقعية لينغرس سريعا في استكشاف الخامات. ففي الوقت الذي كان فيه الفنانون العرب يجربون أشكال التجريد والتعبير، كان يقدم أعمالاً تجريدية يصوغها من كثافة المواد وبألوان ترابية وبتلوينات تذكرنا بشكل كبير بأعمال الفنان الإسباني المجدّد أنطوني تابييس (Antoni Tàpies). أدرك بن الشفاج مبكرا أن الخروج من اللوحة التقليدية لا يتم فقط بسبر الأشكال وإنما أيضًا بتحويل السّند، من خلال استعمال التراب والرمل ومسحوق المرمر وإدخال عناصر خارجية على فضاء اللوحة. هذه البنائية الخامية هي التي جعلت أعماله طليعية، تفتح أمام التشكيل منافذ جديدة تحتل فيها الأرض والعالم مكان الشكل الفني.
أمام التجاهل الذي عاشه هذا الفنان لمدة طويلة، عاد لواقعيته الأولى قبل أن يدهشنا مرة أخرى بتركيبة من الأعمال الفنية التي يمكن اعتبارها خلاصة حبه للتشخيص ولقول العالم على طريقته. ففي السنوات الأخيرة، تحرر الفنان من كل ما كان يشتغل في مقصدياته الجمالية. من المواد والخامات لأنها صارت تثقل مخيلته، ولأنها تُدووِلت بأشكال كثيرة في ما حوله من الفنانين الشباب، بحيث صارت مفرغة من محتواها الطليعي والتجريبي، كما من التجريدية التي جردته من عشقه للرسم والتفاصيل وولعه بتصوير الجسد.
بعد عودته المذهلة للعرْض، ها هو يطلق العنان لشغفه التَّليد بالرسم. ثمة فورة من الأحاسيس، وتشكيلات يتخذ فيها الجسد الأنثوي جميع الأوضاع. ثمة عالم خاص يقربه أكثر فأكثر من الفن العربي والمتوسطي، هو الذي دأب لسنوات طويلة على تدريس الحضارات المتوسطية وتاريخ الفن في المعهد العالي للفنون، الذي درس به في بداية الخمسينيات مع رواد الحركة التشكيلية المغربية كمحمد المليحي ومحمد شبعة. يصوغ بن الشفاج عالمه على أجساد متداخلة بتداوير وتشكيلات يؤسلبها على طريقته الخاصة. الرؤوس تبدو كما لو كانت مستوحاة من الإرث الإغريقي، والأجساد من الفن الإفريقي. هذا التمازج الأسلوبي يمنحها صبغة هجينة تأخذ بنظرنا وتجعلنا نتأملها بنوع من السؤال والدهشة.
بعد فترة تجريب الخامات وجعلها محتوى للعمل الفني يعود بن الشفاج بقوة إلى الرسم والصباغة الزيتية ليقدّم لنا شخوصًا شامخة مفعمة بالتعالي. وطابعها الإغريقي الذي أشرنا إليه يؤكد هذا الانغراس في سمو الإنساني وفي ألوهته الباطنة. إنه سموّ يفوح بالمأساوية، باعتبار أن البطولة الميثولوجية مأساوية بطبعها ومحمولة على هوى الأقدار المبيَّتة التي تسيِّر مصائر بني البشر. لهذا يمسْرح الفنان شخصياته مستدعيًا إيانا إلى نوع من التأطير الداخلي للوحة. وحين يحيل إلى الميثولوجيا الإغريقية بالأخص فهو ليس الأول من بين الفنانين المعاصرين الذي يرسون بمخيلتهم في تاريخ الفن: بيكاسو والمينوتور الذي كان مولعًا به، فرانسيس بيكون، وأوريستيا إسخيلوس، أندري ماسون واشتغاله المتعدد على أوديب وآريان… كما لو أن هذه الإحالة تمنح للفنان وللوحاته بُعدًا عموديًا في تاريخ الفن والمعتقدات، وبُعدًا أفقيًا في استحضار المدى المتوسطي الذي ينتمي إليه.
بيد أن هذا التوجّه لا يجعل من بن الشفاج فنانًا كلاسيكيا البتة. إنه فقط يمنح لنفسه قاعدة صلبة لم يمنحها له التجريب، ويدفعه بالتالي إلى أن يسائل بتؤدة الكلاسيكيين كل مظاهر التحولات الحديثة في طابعها التراجيدي. أما ولعه بالجسد الأنثوي فيأتي من هذا الطابع المتجدد، بحيث نراه يرسم الجسد المجرَّد من كل شيء إلا عريه، وكأنه يحيله إلى طبيعته الأولى، الشهوانية والوجودية في الآن نفسه. هذا الهوْس يمنح أعماله طابعًا صوفيًا ضمنيًا يجعل الأنثوي مرادفًا للإنساني بل التمظهر الجوهري للإنساني، ذلك أنه، على الطريقة الإفريقية، يسبغ على هذا الجسد تداوير لا رشاقة فيها، تمنحه طابعًا يقارب المقدس أو يجاوزه. وبذلك يشكل بن الشفاج عالمًا لا يقدمه لنا هكذا، وإنما من وراء حجب من اللطخات، وكأنه في جدلية الخفاء والتجلي هذه، يسعى إلى أن يستدعي نظرة المشاهد كي تغوص في تفاصيل متوارية أو بحثًا عن استكمال المشهد. هذه المواراة، التي قد تأخذ أحيانًا أشكالاً هندسية عبارة عن تشطيب (كما يقول جاك دريدا)، أي إظهارًا ومحوًا في الآن نفسه، واستشكالاً للرؤية. بحيث نجد أنفسنا هنا أمام اللوحة غير المكتملة أو اللوح الممْحو بصلصال السؤال. على هذا النحو تنبثق حكاية ممهورة بالنسيان، تبوح من غير أن تفصح، وتمنح لنا شذرات من الجسد الأنوثي كي تحوله إلى حلم أو إلى رؤيا.
يتابع بن الشفاج تجربة مميزة، ترتاد آفاقها بكامل الثقة، وتستخرج من أعماقها أسئلة الوجود والجسد. وهو يقارب الثمانين، لا يزال يحمل في دواخله فتوَّة تجعله يمنحنا لوحات من القوة والعمق والفرادة، ما يدعونا لنعيد النظر في تاريخنا التشكيلي الحديث كي يتبوأ فيه المكانة التي حجبها عنه التجاهل والإهمال والحسابات النقدية الضيقة.