خريف عرض مسرحي عن واقع مأزوم وجسد مكلوم…
بيت الفن
في ثاني عروض افتتاح موسمه الثقافي استضاف المسرح الوطني التونسي، أخيرا، قدمت فرقة “مسرح أنفاس” عرضها المسرحي “خريف” للمخرجة المغربية أسماء هوري.
ينطلق العرض من نص واقعي مستلهم من قصة حقيقية للكاتبة والإعلامية الراحلة فاطمة هوري، إذ تروي مسرحية “خريف” قصة سيدة أجبرها المرض على إعادة ترتيب علاقاتها ويومياتها وإعادة تفكيك شريط حياتها، في محاولة للتكيف مع واقع مأزوم وجسد مكلوم.
وعلى خشبة المسرح كان الجسد هو الغاية والوسيلة وجوهر الحكاية من البداية إلى النهاية. إنه جسد امرأة سرق منها “سرطان الثدي” الأنوثة والثقة بالنفس، لتجسد بدورها حجم الخسارة ووجع القلب وجراح الروح، خاصة أمام فقدان مساندة الزوج والمجتمع.
ويرصد العرض بشكل أساسي ممثلتين اثنتين، لكنهما ليستا سوى تجسيد لامرأة واحدة، الأولى تعبر بالجسد فحسب، فيما الثانية هي الصوت، الكلام، بوح الشخصية، ولو أنه جاء قليلا ومتقطعا وأقرب إلى غمغمات منه إلى نص متكامل.
يرصد عرض “خريف” ثنائيات من المفارقات التي بلغت حد الصراع بين العقل والجسد، الوعي واللاوعي، المحسوس وغير المرئي، وغيرها من الثنائيات. وقد نجحت المخرجة أسماء هوري في ترجمة كل هذه الأبعاد إلى مشاهد مسرحية تخاطب الحواس والإحساس على حد السواء.
والشخصية الحقيقية التي استلهم منها العرض قصته هي أخت المخرجة، لكن صلة القرابة تلك لم تترك أي أثر للتفجع، بل كانت دافعا للمخرجة لتقدم عرضاً مميزا، لا يخص الكاتبة الراحلة وحدها بل يلامس كل المعذبات، وربما المعذبين الذين يواجهون المرض الذي ينخر أجسادهم، ويحول بالتالي معها أفكارهم في تأكيد على مكانة الجسد الذي منه تبدأ الأفكار مهما أنكر الفلاسفة القدامى ذلك.
ولم تكتف المخرجة برواية أختها المكتوبة، ولا بكونها عايشت تلك التجربة عن قرب، بل ارتأت مقابلة عدد من النساء المصابات بالمرض الخبيث، لتعاين فظاعة أن يفقد المرء جسده شيئاً فشيئاً، أو دفعة واحدة.
على الخشبة لا تفترق بطلتا العرض، وفي تلازم كتلازم الإنسان وظله برعت الممثلتان في تحويل النص إلى كلام منطوق بلسان متألم على مستوى أول وإلى حركات جسد مهزوم يتأوه من نزف آهاته على مستوى ثان.
وقد مثلت السينوغرافيا نقطة ارتكاز وتميز في العرض، الذي برع في تطويع الفضاء المسرحي لصالح القضية بكل ما يحوم حولها من أبعاد رمزية وفلسفة عميقة عن أنطولوجيا الجسد في العصر الحديث.
واعتمد عرض “خريف” على موسيقى حية رافقت ملحمة الجسد ما بين استسلام ومقاومة، سكون وصخب، اضطراب وتوازن. وقد أضفى عزف العود بعدا ثالثا ونفسا مميزا على المسرحية التي راقصت الجمهور على حبل من الشجن والحنين إلى الحياة. وفي إطار من التجديد والتجريب، اقترح عرض “خريف” مشهدا مسرحيا معاصرا انطلق من معاناة نسائية ليلامس هموما إنسانية.