المسكيني الصغير

المسكيني الصغير يواصل مشروعه الفكري بـ”منطق الساقائين..”

ماذا تعني الكتابة والمكتوب إذا لم تكن شبه قربة ماء مليئة بماء زلال ينقد الناس

إما أن تكون الكتابة ضرورة ملحة كالخبز والماء والهواء أو لا تكون

بيت الفن

ضمن منشورات مسرح الورشة، صدر، أخيرا، عن مطبعة “التيسير” بالدارالبيضاء، مؤلف مسرحي جديد للباحث والكاتب المسرحي المسكيني الصغير  بعنوان “منطق الساقائين..الخروج من معرة النعمان” في 124 صفحة من الحجم المتوسط.

يتضمن، الإصدار الجديد، الذي زين غلافه بلوحة معبرة للفنان عبد القادر الأعرج، نصين مسرحيين “منطق الساقائين” والخروج من معرة النعمان” تصدرتهما كلمة مختصرة للمؤلف ورد فيها “من السهل…أن تقول وتكتب كل شيء تتخيله، ولكن من الصعب .. أن تشخص ذلك ..في المسرح، بالإضافة إلى تقديم بقلم الدكتور إبراهيم الهنائي.

في تقديمه للكتاب الجديد يقول إبراهيم الهنائي “الخروج من معرة النعمان” و”منطق الساقائين” للكاتب المسرحي والباحث المسكيني الصغير، عملان يشكلان محطتين مشرقتين في طوبوغرافية أعمال إبداعية لا تقل إشراقا. أعمال تؤرخ لعقود مسرحية متواصلة.

نحن أمام مبدع وباحث مسرحي له مشروع فكري وفني من خلاله يريد أن يؤكد أن المسرح لا بد أن يكون مسرح قضية وإلا انقلب ترفا كلاميا وبهرجة زائلة.

مسرح الكاتب / الباحث المسكيني الصغير مسرح يبدعه إنسان من أجل إنسان يحمل عينين فقط. إنسان لا ذنب له سوى أنه يريد أن يرى ويبصر بعينين لا بعين واحدة كما يفرضها حكام مدن الخلافة التي ل…

يقول فريد الدين العطار في مسرحية منطق الساقائين “ماذا تعني الكتابة والمكتوب إذا لم تكن شبه قربة ماء مليئة بماء زلال ينقد الناس” فإما أن تكون الكتابة ضرورة ملحة كالخبز والماء والهواء أو لا تكون.

قد يقول القائلون، وما أكثرهم، أن زمن هذه الكتابة ولى واندثر. لكن من حق قائلين آخرين أن يطرحوا عليهم بعض الأسئلة المقلقة التي لا تزال تلح أن تجد الجواب:

– هل انتهى زمن غسل جماجم الرعية بكل أنواع الزيوت المستعملة؟

– هل ارتوى الناس من الآبار التي منعوا منها بدساتير حكام مدن الخلافة؟

– هل اندثر زمن الأفواه المأجورة التي تنبطح دون إشعار أمام الدمية الكبيرة صاحبة الأضراس الصفراء؟

– هل انتهى الزمن الذي يتخيل فيه القضاة المجرم والجريمة؟

– هل انتهى زمن الحبال الحريرية لشنق الخيال؟

ولأن الجواب لن يكون إلا النفي القاطع، لا يمكن للكتابة المشاكسة إلا أن تستمر … ذلك لأنها الكتابة وما غيرها لغة مرحلية.

كلام مأجور مباح يبدده حلول الصباح عندما يتأبط السقاءون قربهم لاسترجاع البئر المسلوبة…

من هذا المنطلق فلا غرابة أن يطالب ابن القارح أبا العلاء أن يخرج من سجنه …

أبو العلاء المعري: “أشهد أنني خرجت من عزلتي وأنني أرى بعيون الرعية أشجار تحترق بالبصرة وطيورا شادية تموت في مرابع الشام وعواصم تدوسها أقدام اللصوص والقراصنة”.

فكما تعود شهرزاد لتقود النساء العاملات في التظاهرات، يعود المعري وفريد الدين العطار وغيرهم من الشخصيات التاريخية لتؤكد أن التاريخ حاضر في تجدده. نحن أمام قطب من الثالوث الذي ينبني عليه المسرح الثالث: التاريخ / الزمان / المكان.

بحيث أن التاريخ ليس معطى جامدا بقدر ما هو أرضية لإعادة القراءة والكتابة…

عندما يتناول بريشت مأساة أنتيغون وجان دارك لا يعيد الكتابة كاستنساخ أمين للنص الأصيل وإنما لتسجيل موقف ضد النازية.. فقوة الشخوص والأحداث التاريخية نابعة من كونها تتخطى حدود الزمان والمكان لتأخذ مكانها وقيمتها في الحاضر. في هذا الصدد يقول الكاتب المسرحي جون أنوي بصدد مؤلفه الآلة الجهنمية التي يعيد من خلالها قراءته لمسرحية أوديب لسوفوكليس:

“اندسست كالسارق في تراجيديا أوديب لسوفوكليس … لكن كسارق عاشق عاشق لما يسرقه”

عندما يعود فريد الدين العطار في مسرحية “منطق الساقائين” نراه يعلن أنه أخطأ في حق الطيور:

“إني أخرج يا طيوري من رحلتكم لأرحل من جديد مع كوكبة الساقائين، أقرأ وأتعلم من قربهم السخية منطق الحق وكيف أفصل بين الحاكم والمحكوم في الأرض (…) غدا تصل كوكبة الساقائين تحمل قربها الفارغة يدفعها عطش الأمة إلى إزاحة الأسوار الرهيبة حول بئر المدينة. ما يحدث غدا أكبر من كل الأفواه المأجورة”.

رحلت طيور العطار … قطعت الأودية السبع قبل أن تمثل أمام قصر السيمورغ … وأمام نوره القوي الذي تجلى، تكتشف أنها لم تفارق نقطة بداية الرحلة وأن عليها أن تموت في عشقها كما تموت الحروف في المحابر. .

توحدت الطيور في ذات السيمورغ في كتاب فريد الدين العطار، لكن لا زال القابضون على زمام الأمور في زمن الخلافة مصممون على ما هم عليه من جور وطغيان.. كأن رحلة العطار لم تكن… فهم لا زالوا ينصبون الفخاخ والأقفاص لطيور الرحلة… لهذا على العطار أن ينضم لكوكبة الساقائين ويحمل قربة ماء ليروي البسطاء المحاصرين بالعطش الكبير:

السقاء معروف: “سيدي… ماذا أرى؟ تتقلد قربة؟ أنت لست بسقاء؟؟

فريد الدين العطار: الأمة عطشى يا رجل. ماذا تعني الكتابة والمكتوب إذا لم تكن تشبه قربة ماء؟ قربة ملاءى بماء زلال ينقذ الناس”.

فريد الدين العطار صدى آخر لصوت المخايل ابن دانيال في مسرحية “البحث عن رجل بعينين فقط”:

ابن دانيال : سئمت مهنة الحكيم العارف وفعل الكحال… كل العيون مرمدة، لا ترى خارج أشفارها إلا السراب … عيون تبهرها المساحيق وتنسى أنها تحمل وجها ممسوخا”

لذا فهو يحاكم … يحاكم لأنه يصرح أنه لن يصمت. يحاكم بتهمة حمله لعينين فقط. يحاكم لأنه يبصر. لهذا يرفض أن يعيش في أرض ترفض لغته.

لمناهضة هذه الأحكام المفبركة والاتهامات المغلوطة يستدعي المسكيني الصغير كوكبة من الشخوص التاريخية عبر مشروعه الفكري والفني… يستدعي الحلاج صاحب الخطوات تتجاوز الأقدام المتعبة، يستدعي شهرزاد لا لتحكي حكايتها الطويلة أو لترقص ولكن لتنصهر مع العاملات في تظاهرات صاخبة، يعود الحصان المتمرد وبندقية فارسه عبد القادر التي تحتوي أجيالا من الطلقات،  يعود الحصان الذي يحمل رسالة الشمس للشمس ويكره سروج الحرير، يعود جمجمة وقرمط الحمال. ..

يعودون لأنهم لم يغيبوا يوما بل غيبوا…

ماذا لو تصورنا مشهدا سرياليا تحمل فيه طيور العطار قربا ملآنة بالماء الزلال لتسقي آلاف الطيور والبسطاء الذين لم يستطيعوا متابعة الرحلة؟

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

بعد جدل السنة الماضية..المهرجان الوطني للمسرح يستعد لدورته الـ23 بنفس جديد

الدورة الجديدة تستعيد الهوية البصرية لدرع المهرجان الذي تمت مراجعة تصميمه الفني من لدن مبدعه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by Spam Master