الهيئة العربية للمسرح تنعي فنانة الشعب بإعادة نشر رسالتها في اليوم العربي للمسرح
بيت الفن
نعت الهيئة العربية للمسرح فنانة الشعب ثريا جبران بإعادة نشر رسالة اليوم العربي للمسرح التي كتبتها الراحلة عام 2013 وسجلتها بالفيديو من على سرير المستشفى.
تقول ثريا جبران في الرسالة:
منحت العمر للمسرح. ما قضيته من سنوات على الخشبات، وفي المسارح المغربية والعربية والأجنبية، أكثر مما قضيته في بيتي وبين أفراد أسرتي الصغيرة. اتخذت المسرح مسكنا وأهل المسرح أهلا، وتهت طويلا في النصوص والشخوص والأقنعة والأحلام والخيال. وكانت سعادتي في كل عمل جديد، وكان الفرح يتجدد مع كل لقاء جديد. وطبعا، كان هناك الكثير من الألم في طريقي.
هذه الخبرة، ربما، هي ما يعطيني الحق لأتكلم في هذا اليوم، في اليوم العربي للمسرح. فدعوني أنقل إليكم ما أحسه في أعماقي.
لقد كان المسرح، بالنسبة إلي، وسيظل فن الحقيقة بامتياز. ولكن حقيقة المسرح، بالتأكيد، ليست كحقيقة الخدع السينمائية، ولا حقيقة التلفزات التي تحجب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة، حيث تعد الوصفات والتوابل، وتطبخ الطبخات على نار هادئة في المختبرات والكواليس الدولية – كما كتب الشاعر الراحل محمد الماغوط – ثم يأكلها الكبار في الغرب والشرق، بينما يكتفي العرب بغسل الصحون ! (أفكر هنا بالأخص، في العرب الذين لا يريدون العودة إلى التاريخ بعد أن خرجوا منه!)
المسرح فن حياة. فنحن نخلق المسرح بقلب أشياء الحياة إلى مشاهد، وبالمبالغة – قليلا أو قليلا أكثر – في تمثيلها، سواء بتعظيمها أو تحجيمها. فلا حياة إذا لمسرح إن لم يكن فن حياة، ومسرح حياة.
المسرح أولا، إيمان بقيم ومثل وفضائل قبل أن يكون نصا لمؤلف، يخرجه مخرج، ويلعبه ممثلون وممثلات، وتكمله اجتهادات التقنيين وعمال الخشبة.
المسرح كتيبة كاملة من الإرادات الخيرة التي تصنع الجمال وتنتج المعنى الجميل فتوفر للناس فرجة جميلة، في وقت جميل، في مكان جميل.
المسرح شخوص متخيلة يوفرها الواقع والكتابة. وقد تكون شخوصا رئيسية أو ثانوية أو مجرد «كومبارس»، لكنها تحضر كلها بأجسادها وبأرواحها، بالكلام والصمت، بالحركة والإيماءة، لتوصل أفكارا حية إلى أناس أحياء.
المسرح علاقة قائمة على نوع من التعاقد (والتفاوض الدائم إن شئنا) بين الفنان والجمهور في إطار من التبادل الجميل.
المسرح ليس تصفيقا، وإنما هو تفاعل صدق مع صدق. وهذه مناسبة، لألتمس بألا تصفقوا كثيرا إن دعتكم مجاملات إلى التصفيق. وإن صفقتم – ولا بد – لا تصفقوا تصفيقا خاطئا. لكم أعجبني ما قاله الروائي الألماني غونتر غراس (نوبل للآداب، 1999، الذي كتب كذلك بعض المسرحيات): (التصفيق الخاطئ من الجهة اليمنى يغري التصفيق الخاطئ من الجهة اليسرى!).
المسرح إنصات وصمت وتأمل وسكينة. فضاء للأمل، وحتى حين ييأس المسرح يكون يأسه خلاقا ومدهشا وحيا، وليس عدميا أو سلبيا.
المسرح ثقافة واستثمار ثقافي، خيال وتقنية وصناعة حضارية وإنسانية.
المسرح هندسة للأرواح الجديدة.
المسرح مشهد يجاور مشهدا، مشهد يخاطب مشهدا، ومشهد يكمل مشهدا، تماما كما تجاور الكلمة كلمة أخرى في القصيدة، والصورة صورة أخرى في الفيلم السينمائي، والحركة حركة أخرى في أي رقصة جميلة أو تعبير جسدي، والإيماءة إيماءة أخرى في لحظة صمت.
المسرح أبو الفنون، كائن حي ينتبه إلى التناقضات فيقولها، وإلى التوازنات فيضيؤها، وإلى الاعوجاجات فيعريها، وإلى الهزائم فيسميها.
المسرح نفسه مهنة هزائم صغيرة، ومهنة انتصارات صغيرة أيضا. وهو يأتي بالماضي إلى الحاضر، ويذهب بالحاضر إلى الماضي. إن الزمن كله له. نحن نمضي، ويبقى المسرح. دائما، وسيتجه دائما صوب المستقبل كاشفا الطريق، راسما الخطوة أمام الناس.
لا خدع سينمائية في المسرح يمكنها أن تمجد الحروب، وتضخم البطولات الكاذبة. على العكس، يعتني المسرح بمعطوبي الحروب، وبالمهزومين والمظلومين والمكلومين. ويعطي الصوت لمن لا صوت له، وينتصر للجنون الذي يقول الحكمة وينطق بالموعظة الحسنة.
واليوم، في الزمن العربي الجديد، في ربيع الانتفاضات، نتذكر المسرح كما تذكر شبابنا الأغاني والأناشيد والرقص والتجمع والتظاهر والهتاف. وسيكون علينا أن نبدع مسرحا عربيا جديدا يتجاوب مع الروح العربية الجديدة، على ألا يكون مسرحا سريعا وخطابيا وشعاريا. فلا مجال لمسرح المناسبات والمواسم.
لقد كان مسرحنا العربي الحقيقي ثوريا قبل الثورات العربية الجديدة. ولا شك أنه كان مصدرا من مصادر وعيها، فسبق الثورة إلى فكرتها. وقد سمعت أحد أصدقائنا في حوار إذاعي (مع هيئة الإذاعة البريطانية) يؤكد بأن «شباب الربيع العربي لم يخرج إلى الميادين والساحات من فراغ». وأظن أن هذا صحيح، فقد خرج شبابنا من معاناته مثلما خرج من مسرح سعد الله ونوس ومحمد الماغوط وروجيه عساف والطيب الصديقي ويوسف العاني وقاسم محمد وفاضل الجعايبي وشريف زياني عياد ومحمد بن كطاف وسميحة أيوب ونضال الأشقر وجليلة بكار وسونيا وسعد أردش وألفريد فرج وجواد الأسدي وغيرهم من كبار المسرح العربي، كما من روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس، وشعر أبي القاسم الشابي ومحمود درويش وأحمد فؤاد نجم وأمل دنقل ومظفر النواب…، ومن الشعر الشفوي، ومن أغاني أم كلثوم والأخوين الرحباني والسيدة فيروز والشيخ إمام ومارسيل خليفة وناس الغيوان، وكذا من السينما والدراما التلفزيونية العربية الجديدة، ومن عقول المفكرين الأحرار والفاعلين الشرفاء الذين مارسوا التفكير بأخلاق والسياسة بنقاء وجرأة، وبثقة في التاريخ وفي إرادة الجماهير.
هل قلت لكم إن المسرح فن حقيقة؟ أجل، ولكنه فن الشك أيضا. فالمسرح تعبير عن الشك بامتياز. الشك الذي يوقظ الوعي والسؤال.
هكذا تعلمت المسرح. وتعلمت في المسرح، أن نخدم الحقيقة، وأن نشك فيهـا. فيا حماة الحقيقة اتحدوا، ويا جيل الشك كن بالمرصاد.
عاش المسرح العربي جادا وجديدا ومجددا على طريق الوعي، ونبل الرسالة، وحسن المقاصد. المجد لشهداء وشهيدات الحرية والكرامة في الشارع العربي، لكل تلك المشاعل التي أضاءت وتضيء ساحة مسرحنا العربي الكبير الممتد من ماء الخليج إلى ماء المحيط.
عاش مسرحنا العربي لمجد الأمة وأفقها وآمالها.
عاش أهل المسرح أينما كانوا، في الأوطان أو في الشتات، صناعا للجمال، رعاة للحرية والحلم والتخيل والفعل الصادق الأمين.