السينما والتاريخ

صدور النسخة العربية لكتاب مارك فيرو “السينما والتاريخ”

بيت الفن

السينما شريك حقيقي للتاريخ، وتؤدي دورها بفضل وسائل معينة ومحددة، وأصبح التاريخ يدرك تماما من الآن فصاعدا أن السينما، ومن خلال خطاب واضح المعالم، تسهم في اكتشاف غير المدرك، وتشكل مجموعة من الأرشيفات التي لا تقدر بثمن، سواء كانت وثائقية أم خيالية، وهنا يوضح مارك فيرو في كتابه “السينما والتاريخ”، الذي ترجمته إلى العربية سحر سمير يوسف وصدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، عددا من التداخلات الكثيرة ما بين التاريخ والسينما، انطلاقا من “الوهم الكبير” وصولا إلى “لاكومب لوسيان” ومن “السيد الملعون” ثم إلى “دروب المجد” هذه التداخلات العديدة تسمح بالوصول إلى فهم أفضل للمجتمعات القديمة والمعاصرة.

يتساءل الكتاب: هل من الممكن اعتبار الفيلم وثيقة غير مرغوب فيها من قبل المؤرخين؟ فعلى رغم مرور أكثر من 100 سنة على ظهور الفيلم، لا يزال الفيلم متجاهلا، فلم يتم حتى الآن تصنيفه، ولو من ضمن المصادر المرفوضة أو المهملة، الفيلم لا وجود له في المجال الذهني للمؤرخ، وفي الواقع فإن السينما لم تكن قد ظهرت بعد عندما بدأ التاريخ في اتخاذ عاداته وتنقيح أساليبه وأدواته، أو عندما كف عن السرد متجها إلى الشرح، كذلك فإن لغة السينما هي لغة مستغلقة مثلها في ذلك مثل لغة الأحلام، تشتركان معا في حقيقة واحدة، ألا وهي أن تأويلهما غير مؤكد.

غير أن هذا التفسير لن يرضي كل قارئ، يعرف النشاط الدؤوب للمؤرخين الذين يملأهم الحماس، لاكتشاف مجالات تعبير جديدة، كل قارئ يدرك مدى قدرته على حمل كل شيء على الحديث عما حدث، حتى وإن كان غصن شجرة أو هياكل أثرية، وأخيرا قابلية هذا القارئ للاهتمام بعنصر كان في نظره غير ذي أهمية وتحويله إلى عنصر أساسي.

ومن مقدمة الكتاب نقتطف ما يلي:

لم يعد هذا العنوان في حد ذاته مثيرا للدهشة، ما دام أن التقريب ما بين المصطلحين والعلاقة ما بين العالمين اللذين تحتويهما أصبحنا بمثابة الأمور البديهية. ومع ذلك، عندما قدمت بداية الستينيات من القرن العشرين فكرة دراسة الأفلام بوصفها وثائق وبناء عليه القيام بعمل تحيين عكسي للمجتمع انتقدت الأوساط الجامعية حتى ذلك الحين لم يكن التاريخ بوجه خاص سوى أمرا يعتمد على الكمية: وقد نصحني فرناند بروديل قائلا “افعل، لكن لا تبح بما تفعل”.

واعتقد بيير رونوفين أنه من الجيد إضافة “اهتم بالانتهاء من أطروحتك أولا”. اليوم أصبح للفيلم الحق في الوجود في الأرشيفات، كما أصبح له حق الوجود في الأبحاث.

ورغم ذلك فإن الأمر الجديد بات في اتجاه آخر، ىلا وهو الانعطافة الجديدة التي طرأت على العلاقة ما بين المكتوب والمصور خلال العقود الأخيرة.

وخلال منتصف القرن كانت شرعية الصورة محل الجدل، لأن أقرانها صاحبات المقامات الرفيعة مثل الرسم والمتاحف والمجموعات المقتناة فقط هي التي كان يمكنها عبور بوابة العالم المثقف أو عالم السلطة.

بلا شك حدث خلال ثلاثينيات القرن الـ20 أن اعترفت بعض الدول “المشوهة الطبيعة” مثل الاتحاد السوفييتي بالفن السبع خاصة في شخص سيرجي إيزنشتاين أو بالأصح اعترفت بالأهمية التاريخية لـ تشاباييف، لكن في البلاد الأخرى لم يكن شارلي شابلن ورينوار وروسيليني قد اكتسبوا بعد وضعية العمالقة لا في الفن ولا في غيره في حين نجحت حركة الموجة الجديدة خلال ستينيات القرن الماضي من خلال الكاميرا القلم في فرض شكل جديد سيصبح متساويا مع كل الأشكال الأخرى ومن ثمة سيكون له هو الآخر كلمته عن التاريخ.

بلا شك كانت السينما تقوم بهذا الأمر منذ زمن بعد، لكن هذا الاعتراف وهذه الشرعية لم تأت في الحقيقة سوى خلال هذه الحقبة. وساهمت مهرجانات مثل مثل كان وفينيسيا وإصدارات مثل دفاتر السينما في إضفاء مثل هذه الشرعية.

بعد 30 عاما لاحظنا تحولا جديدا، انتصار الصورة، وانقلابا، يتمثل في دخول الصورة عصر الشك. وبخاصة الصور التلفزيونية، باتت في كل مكان مسيطرة على العادات والتقاليد، إن لم يكن على الأفكار أيضا، وسعت إلى فرض نفسها على أنها خطاب واقعي: “الصورة لا تكذب”، خلاف للخطاب السياسي لكنها سرعان ما أصبحت هي الأخرى مثارا للجدل، رغم تمكن إمبراطوريتها من حمل الراية بعد الكتاب.

في الحقيقة قام التلفزيون إلى حد ما إلى ابتلاع السينما، لكن هذا الزوج السيامي لا يمكن لأحدهما أن يحيى دون الآخر، إن السينما لن يكون في مقدورها البقاء دون مساعدة التلفزيون ولا التلفزيون سيبقى دون أفلام السينما، حيث يفقد هو الآخر جمهوره.

ومع بداية الستينيات كانت الصفوة والحكام يريدون تجاهل صورة التلفاز على غرار الأجيال السابقة عليها التي كانت تقلل من شأن السينما وفيما مضى كان النظام السياسي يسعى إلى احتوائها بشكل أكبر من رغبته في احتواء أحداث الماضي، من ثمة أصبحت الصورة التلفزيونية رهانا ثقافيا وسياسيا في الوقت نفسه.

نجح الفيلم أخير في اكتساب وضعية الوثيقة ولكن كان ذلك في مجال علم الأنثروبولوجيا أكثر من التاريخ، كذلك كان نجاحه أوسع في الدول الأنكلوسكسونية منه في فرنسا وإيطاليا أو روسيا.

أما آخر صيحة فكانت استخدام الفيديو وتوظيفه من أجل الأغراض التوثيقية، اي استخدامه من أجل كتابة التاريخ المعاصر: كانت التحقيقات المصورة التي تلجأ للاستعانة بالذاكرة والشهادات الشفوية أصبحت هي الرائدة وتفرض نفسها، وبذلك ساعد الفيلم على وجود وخلق تاريخ مضاد غير رسمي، انطلقت بداية من الأرشيفات المكتوبة التي هي في الغالبة الذاكرة المحفوظة لمؤسساتنا.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

ثملا على متن دراجة هوائية

إسماعيل غزالي يكتب “ثملا على متن دراجة هوائية”

قصص مغربية تمزج بين الشعر والسرد والسينما بأصالة وسخرية تستعيد عوالم المدن البحرية بيت الفن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *