سناء تراري*
“الأمور بخواتيمها”، إنها مقولة تلائم كثيرا خاتمة الفيلم التونسي “سَامَحْنِي”، حيث النهاية لم تكن مجردَ عنصر من عناصر الحكي الأساس أو القُفْلَ الذي يغلق أبوابَه، بل النهاية هنا حكي توفرت فيه من الأحداث والتفاصيل ما يجعلها قصة قائمة بذاتها، قصة تنبض بالرموز على مستويات عدة؛ الصورة والحركة والإيقاع…
من شاهد الفيلم قد ينسى الكثير من أحداثه وحتى بعض شخوصه لكنه حتما لن ينسى خاتمته المتميزة، كما أن المشاهد قد يتغاضى عن الهنَّات التي انتابت العمل السينمائي وقد يغفر للمخرجة الإيقاع الذي تباطأ في أكثر من مشهد وجعل بعض الملل يتسرب إلى نفسه. إلا أن حالة الاستمتاع تسيطر عليه وتستفز كل حواسه وهو يدخل في حضرة النهاية.
تبدو كل الطرق في الفيلم مؤدية إلى النهاية، مركز ثقل الفيلم وذروته، وكأن الأحداث مجرد مدارج للصعود إلى هذه الذروة والشخصيات مجرد صانعة لهذا التتويج، والعقدة لا يكتمل اشتباكها إلا حين تصل المرحلة الأخيرة فيشتد التوترُ الممتعُ الذي يعقبه استرخاءٌ تزعجه أسئلة واعية وحارقة.
إن ما يميز نهاية فيلم “سَامَحْنِي” أن حياة المخرجة تتقاطع مع الفيلم من حيث تيمة من تيماته الأساس: الموت، وأن الرحيل رحيلها كان منتظرا وهي تصور فيلمها؛ وحتميا وهي تصارع لإعداده تاركة إياه في مرحلة المونتاج كوصية.
إن مصير المخرجة الراحلة نجوى الإمام سلامه (27 فبراير 2018) هو نفسه مصير بطلي الفيلم، وكما اختارت هي أن ترحل وهي تقدم ما تحب؛ السينما، فقد اختارت أن تمنح لبطل فيلمها الباحث في الآثار”مستاري” رحيلا كما يحب، وحيث يحب، وبشاعرية متدفقة.
المكان ليس إلا مقبرة واقعة بمحاذاة البحر حيث صوت ارتطام الأمواج بالصخور يكسر صمت القبور، مكان توافرت فيه كل مقومات طقس جنائزي مهيب، إذ اختار “مستاري” البطل الأول الذي أدى دوره باقتدار الممثل السوري عابد فهد فسحة بالمقبرة ليبني ضريحا فخما سامقا أشبه بأضرحة القديسين، ربما أراد أن يخلد لمروره بالحياة كما فعلت المخرجة بتركها لفيلمها هذا – الوصية – .
كما كانت المغارة الموجودة بعين المكان الفضاء الأنسب لمعانقة الموت، لأنها تحيل على العمل الأركيولوجي الذي شغف به “مستاري” ومارسه كمهنة بكل أمانة وإخلاص دفع ثمنهما غاليا. حمل إليها ما استطاع من أشياء رمزية ذات قيمة خاصة لديه، كصورة زوجته الراحلة، فستانها الأبيض ووشاحها، بضع تحف تاريخية. ومع ضوء الشموع الخافت وكأس النبيذ الأحمر كانت الرومانسية تسيطر على المكان، إنه الموعد المنتظر، ولن يفسد أناقة اللقاء التابوت المجهز سلفا والجاثم بالجوار.
بالموازاة مع رحيل “مستاري كان ثمة رحيل آخر يتم الإعداد له عن نية مُبيتة، فـــ”فوزي” البطل الآخر في الفيلم، القاضي الفاسد، الذي أدى دوره بانسيابية وعمق جميلين الممثل التونسي محمد علي بن جمعة؛ كان يبحث عن الخلاص كذلك، لكن خلاصه لم يكن في الموت بل بحصوله على الصفح من “مستاري” الذي تسبب في تدمير حياته حين أصدر في حقه حكما ظالما بالسجن بعشر سنوات في قضية تهريب ملفقة.
صحوة ضمير القاضي إثر مجموعة من الأحداث وبفضل تدخل عوامل مساعدة يستعرضها الفيلم بتأن،ٍ ستدفع به إلى تعقب ضحيته السابقة “مستاري”، والبقاء على مسافة قريبة منه، يتبع خطواته وتحركاته، مترقبا اللحظة المناسبة ليتواصل معه وجها لوجه طالبا منه السماح.
خلال هذا الترصد الذي يصبح لصيقا وحثيثا كلما اقتربت نهاية الفيلم ينكشف البعد النفسي للشخصيتين معا، الصراع النفسي الذي يحكم كتمه “مستاري” وهو يوشك على مغادرة مرتقبة مختلفٌ عن الصراع الذي تفضحه ملامح “فوزي” الذي ينهشه السؤال الأساس؛ هل سيحظى بالصفح؟ وبالتالي سيتمكن من القطع مع ماضيه المظلم وبدء حياة جديدة.
قبالة الشاشة الفضية، الجمهور لن يبقى بمعزل عن الأحداث، فالأسئلة تصول وتجول بذهنه: ما الذي ينوي “مستاري” فعله تحديدا؟ كيف سيعانق الموت؟ وهل سيلتقي بفوزي؟ وهل سيصفح عنه؟ وكيف ستكون المواجهة؟ وماذا بعد الصفح أو عدمه؟؟….
في اللحظة الحاسمة لحظة اللقاء المنتظر، سيتعذر الغفران أو “Le pardon” وهو عنوان الفيلم باللغة الفرنسية، سيرحل “مستاري”، ليترك فوزي مشدوها غير قادرعلى استيعاب رهبة الموقف.
يتسع الإطار ليرصد مشهد وداع “مستاري” بحضور أصفيائه عند الضريح الذي بناه في فسحة المقبرة؛ تحت أنغام معزوفةٍ تخترق الروحَ؛ ألفها الموسيقار رياض الفهري من وحي الحكاية، وعزفتها الفرقة الموسيقية في عين المكان. يتسع الإطار أكثر فأكثر ليضم “فوزي” المتسمر مكانه غير بعيد، ثم يظهر المسدس المصوب إلى رأسه بدقة من طرف واحد أباطرة الفساد.
لم تفسد المخرجة جمالية المشهد بصوت الرصاصة المنطلقة من فوهة الفساد، تركت النهاية مفتوحة والعزف مستمرا ينتشر في الآفاق والجمال يؤثث الفضاء. عزف ينتصر للموت بعيدا عن صورته النمطية الحالكة، وجعلته موتا أنيقا في مواجهة القبح المستشري في هذا العالم.
فإن كانت فكرة فيلم “سَامَحْنِي” انبثقت من الخيال وتطورت في رحم عقل واع ورؤية جمالية ناضجة، فلقد انتهى إلى الواقع ومساءلته؛ واقع تونس المعاصر، تونس ما بعد ثورة الياسمين.
لقد قالت المخرجة نجوى الإمام سلامة كلمتها ومضت.
* باحثة مغربية