كمال كمال

كمال كمال.. غابات الخلق ونهر الإمتاع..

عبد الإله الجوهري

لا أعتقد أن هناك مخرجا مغربيا يتحقق الإجماع على ما حقق ويحقق من أفلام مثل ما هو الأمر مع كمال كمال، بالنظر لجدية وعمق انجازاته الفيلمية، وحلاوة وطلاوة موسيقاه التي منحها للعديد من أشرطته والأشرطة المغربية الأخرى. كما لا يمكن أن تجد فنانا يضاهيه في حلاوة المجالسة والمعاشرة والمعشر والوفاء للصداقة والأصدقاء على اختلاف توجهاتهم واهتماماتهم، مع عمق الإبداع وعذوبة اللسان عند الحديث، ورطوبة المكاشفة والمواجهة بما في سينما كل واحد منا، من نقاط القوة أو الضعف، سمات وصفات جعلته سيد من سادات القول النقدي الحكيم. إلى جانب ذائقته الفينة وانجازاته المتعددة التي كرسته كمخرج حقيقي من مخرجي هذا البلد السعيد المسمى المغرب. بل ومعشوقا يسقط في شباكه و حبائله “الماكرة” الصادقة المضمخة بروح الدعابة والحب والوفاء لقيم الجلسات، كل محب للمسامرات الصادقة الخالية من كل ما لا يجوز قوله، والتركيز فقط، على القول الساخر والنغمة الساحرة التي تسلب اللب والقلب..

كمال كمال، جاء من بعيد، من مدينة بركان، المجاورة لمدينة الألفية وجدة وكل العلوم والفنون، أساسا منها الفنون الموسيقية المضمخة بعطر التاريخ كالغرناطي، أو المقرونة بالتراث المحلي الأصيل كالراي والعلاوي، جاء حاضنا لكل العلوم والفنون، أي محملا بصرة الإبداع الضاج بمعاني الحياة والتشبث بأهداب تدبيج وخلق المستحيل، فكان الذي كان، دخل غمار السينما، بعد تجارب في العزف والغناء، مزودا بعزيمة لا تقهر ونباهة لافتة قادرة على خلق المستحيل وتجميع ما لا يجمع، فصنع لنا فيلما يقطر صورا وشعرا بعنوان “طيف نزار”، عن الجلاد الذي يصبح ضحية والضحية الذي يمسي جلادا، حيث تختلط الأوراق وتضيع الحقيقة في بلد منذور لكل الاحتمالات، احتمالات الربح والخسارة والبقاء في الركن، تعد خسائرك وتمضغ أحزانك وتراقب همك الذي يشوى أمام عينيك على نار هادئة من الوعود والعهود والخطب الجافة الفارغة.

بعد “طيف نزار” والسمعة الطيبة التي حصدها في كل فضاءات العرض السينمائي، جاءت تجربته الثانية بعنوان “السمفونية المغربية”، فيلم أو لنقل معزوفة عن الحرب والسلم والسلام، عن البشر المرميين هناك في مكان قصي من ذاكرة هذا الوطن، البشر، الذين يعلوهم الصدء بفعل قبح الوقت وعنت متطلبات الحياة، لكن في دواخلهم، يحملون قلوبا طرية طيبة، قلوبا تريد أن تفتح وتنفتح على العوالم الجلية، العوالم التي يسكنها البشرالأكثر تحضرا وإنصاتا لصوت الإبداع الطالع من عمق الأعماق، الأعماق التي تنبذ العنف وتسعى لتكريس مفاهيم الإنشاد للحجر والشجر والبشر…

كم رقصت في دواخلي، وأنا أتابع الفيلم، ذات مهرجان وطني بطنجة سنة 2006، ورددت، مثل ما ردد كل الحضور، مع أبطال الشريط،  ترانيم غنائية خالدة، وتهتز القاعة بكل عنفوان مع مقطع: “مازال تدور الدورة، وتعود القمحة للمطمورة، والساقية تروي الدشورة، مازال يعم الخير..” . فعلا،  لقد عم خير عميم على السينما المغربية وكمال كمال يتابع تجربته السينمائية لا كمخرج فقط، ولكن أيضا ككاتب سيناريوهات وكمؤلف موسيقي حقيقي يضع الألحان تلو الألحان، ولعل الجميع يتذكر موسيقى فيلم “وداعا أمهات” للمخرج محمد اسماعيل، وموسيقى “الوشاح الأحمر” لمحمد اليونسي، مثلما يتذكر موسيقى فيلمه “الصوت الخفي” الذي أراده أن يكون فيلما عن الذاكرة، عن جزائر الثورة والشهداء الذين سقطوا تباعا من أجل الوطن، عن الأحلام المجهضة والذكريات الهاربة بين دروب ومسارب التاريخ، عن شهداء ينامون ولا يستيقظون إلا لكي ينغصون علينا حلاوة العيش والمعيش، ويذكروننا دوما أننا أسرى ذاكرة مثقوبة منفلتة من أسرالوفاء لقيمهم وتضحياتهم التي أصبحت اليوم تبدو بدون معنى، تضحيات مخطوطة في كتب مرصوصة على الرفوف لا يقرأها قارئ فهيم، وأفلام لا يلتفت لها الجمهور الحكيم، أفلام متهمة بتحريك السكين في الجرح، سكين حسن الجوار والدماء المشتركة التي أريقت دون نتيجة تذكر، اللهم نتيجة قطع الأرحام وغلق المعابر لسنوات، وتشتيت شمل الأسر بين الهنا والهناك، حيث الحدود الشائهة المشوهة بالأسلاك الشائكة.

الوعي الشقي والذاكرة المجروحة، عادت لتبرز أكثر قوة في إبداعه الفيلمي التالي، في أغنية فيلمية نسائية جريحة ،عنوانها “نديرة”، الفيلم المنذورة لسنوات القيد والرصاص القاتل، والشؤم والعذاب المتواصل، مع العيش في زنزانة أو جحر تستوطنه الصراصير والجرذان، حيث الكرامة البشرية المهانة، والموت المستظل بظلال الجلاد المتنصل من كل رحمة، الجلاد الذي يرى في المرأة مجرد جسد عار يمكن توظيفه واختراقه عند الحاجة، ثم رميه، عند الاقتضاء، وراء أشعة الشمس حيث الظلمة القاتلة والعذاب المتواصل ليل نهار، عذاب الجسد والقلب والروح، الروح التي تريد أن تخرج من المسام وتخنق الجلاد وتنطلق في دنيا الإنعتاق والحرية..

خلاصة القول: لم يحدث في تاريخ السينما المغربية من قبل أن ارتفع في سماء الإبداع مثل هذا العدد من التبجيل والتوقير بالمئات، وربما الآلاف، في حق سينمائي مثل ما ارتفع وحلق مع كمال كمال، لهذا عاش، هذا المخرج البوهيمي المهووس بحب الفن ، ولا زال يعيش الكثير من رغد العيش في كنف حب الجميع، والتكريم تلو التكريم من مهرجان لمهرجان. ولعل تكريم مهرجان الداخلة السينمائي له ولتجربته اليوم، مجرد محطة من بين محطات كثيرة سيتوقف فيها لحظة، قبل أن يواصل المسير لمحطات اكثر ألقا وتألقا، مادام نبضه الإبداعي يفاجئنا المرة تلو المرة، بأفلام وألحان تؤصل نظرتنا للحياة وتزرع فينا بذورالخير، وتستنبت في نفوسنا التواقة الطموحة كل مفاهيم الحب والحرية، بل وتغرس حتى في النفوس الأكثر خشونة وتخلفا وبدائية، شيئا من عشق الصورة الجميلة والكلمة الطيبة…

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

عبد الإله الجوهري ضمن لجنة تحكيم مهرجان أورآسيا السينمائي الدولي

اختيار يؤكد أن السينما المغربية وصل صداها لبلدان جد بعيدة لم يكن للسينمائيين المغاربة من …