المسيرة

ما الغاية من إنتاج أفلام سينمائية حول القضية الوطنية لا يشاهدها الجمهور؟

بيت الفن

هل هي مصادفة أن تعمل مختلف القنوات الوطنية على اقتناء فيلم “المسيرة” لمخرجه يوسف بريطل، وبثه على شاشة كل من قناة مدي 1 تي.في و الشركة الوطنية مرورا بالقناة الثانية؟ مع أن الفيلم لم يحقق نجاحا بالقاعات السينمائية، رغم الميزانية الضخمة التي خصصت له وفاقت أربعة مليار سنتيم، مخلفا بعد عرضه الأول خيبة كبرى لدى صناع القرار، وزراء وبرلمانيون ورجال سياسة وعلى رأسهم أطر من وزارة الداخلية، فضلا عن النقاد وجمهور المتتبعين، لأنه لم يكن في حجم انتظاراتهم تبعا لما توفرت له من مساعدات ومن إغداق مالي فات حد السخاء، في حين لم تلتفت مجمل هاته القنوات لبعض الأعمال الرصينة التي تناولت موضوع القضية الوطنية، القديم منها أو الجديد، كما هو الحال لفيلم “حياة مجاورة للموت” الذي يجيب عن أسئلة راهنة وطازجة حول موضوع قضية الوحدة الترابية، وفق معالجة تاريخية، حقوقية وسياسية بطريقة بيداغوجية معززة بوثائق ناذرة ومعطيات علمية وأدلة تاريخية وثقافية واجتماعية، وعلى خلفياتها يصوغ وبذكاء قصصا إنسانية مشبعة بالحساسية الوجدانية، ومنفلتة من قوالب الحكي عن حياة، عن سيرة، لتضعنا أمام مشكلة حياة واحدة في الظاهر، متناسلة متداخلة متجددة في باطن النفس وثنايا الكلمات، تستحضر زمنا ضائعا من تجارب شخصيات عاشت عمرا في حفر وسجون “البوليساريو” الرهيبة بين التعذيب والأعمال الشاقة، وتشهد على واقع حال مضى وظل يتجدد إلى يومنا هذا مع حالات أخرى من أبناء المخيمات.

الفيلم خلف صدى عميقا لدى ساكنة العيون بمناسبة المهرجان الوطني للفيلم الوثائقي، ولم يجادل أحد في تتويج هذا العمل بالجائزة الكبرى وجائزة الإخراج وجائزة المونتاج، حيث أجمع الكل أنها كانت مستحقةـ هذا فضلا عن الاستحسان والتنويه الذي لقيه الفيلم في عرضه الأول بالبيضاء والرباط وطنجة إثر مشاركته في المهرجان الوطني للفيلم، مع العلم أن الدعم الذي خصص له كان جد ضعيف، وذلك باعتراف أحد أعضاء لجنة دعم سابقة كان يرأسها مبارك ربيع، التي منحت دعمها للفيلم بإجماع، شهادة الرجل عبر عنها في تدخل له بالقاعة أثناء مناقشة الفيلم في المهرجان الوطني، نقول هذا الكلام ليس مجاملة للمخرج أو الشركة المنتجة، فيكفي العودة إلى حجم التغطيات الإعلامية التي حضي بها “حياة مجاورة للموت”، فهي شاهد على ما نقول، ما يحكمنا فيما ذهبنا إليه غيرة وطنية تستدعي من المشرفين على القنوات المغربية التقاط الأعمال المضيئة، والمتسمة بالجودة بما يخدم قضيتنا الوطنية، عوض تكريس الرداءة، خاصة في هاته اللحظة التي يروج فيها الإعلام الرسمي الجزائري أفكارا بالية وأطاريح ملفقة ومركبة من سوق المتلاشيات، وهنا يمكن العودة إلى حلقة من برنامج “دائرة الضوء” الذي بثتها القناة العمومية الجزائرية بتاريخ 3 نوفمبر الجاري، وكان موضوعها قرار مجلس الأمن الأخير القاضي بتمديد مهمة المينورسو لمدة سنة، حلقة لم تخرج عن أهدافها المعتادة في التغليط والبلبة والتضبيب، وبالتالي أليست مهمة إعلامنا المرئي التصدي لتشويه مواقف المغرب ومحاولات محو تاريخه الخاص، فإذا كنا لا نهتم بإقناع شعب جارتنا الجزائر وساكنة المخيمات، فكيف لنا أن نهتم بإقناع باقي الشعوب، لا سيما وأن الشعب الجزائري الشقيق لا ينفك وفي مناسبات مختلفة عن التعبير بقوة عن ارتباط الشعب المغربي والجزائري بالأخوة وأواصر المحبة، كما أن ثلة من مثقفيه ومن زعمائه السياسيين عبرت بون مواربة عن مغربية الصحراء، وخاصة إبان هاته الفترة من الاعداد للانتخابات الرئاسية، فيما لا زالت الطغمة الحاكمة المتنفذة أسيرة لمواقف الحرس القديم، وهي بصدد الإعداد لعقد اجتماع لما يسمى بلجان “التضامن الدولية مع الشعب الصحراوي”، خلال 23 و24 من نونبر الجاري، كما أن “جبهة البوليساريو” بصدد عقد مؤتمرها الخامس عشر نهاية السنة، ونحن نعلم حجم التناقضات التي تعتري جسدها المريض المتهتك وشبه المتفكك.

فكيف يكون إعلامنا مؤثرا وفاعلا في تبديد المواقف العدمية وفضح مغالطاتها السياسية، حيث لا نكاد نسمع له صوت إلا في المحطات الرسمية التي تعبرها القضية الوطنية في المحافل الدولية، أو بمناسبات وطنية، وكأنها تقول لدبلوماسية الدولة “اذهب وقاتل إنا نحن هاهنا لقاعدون”، فإذا كانت الدبلوماسية الخارجية تهتم بالعلاقات الدولية وتخوض معاركها ضد خصوم وحدتنا الترابية في كواليس الهيئات وواجهاتها فما هو دور الديبلوماسية الموازية ومنها السينما والإعلام المرئي على الخصوص؟ ما هي استراتيجيتها على مستوى اختراق المؤسسات الإعلامية ومراكز البحث والجامعات ونخب المفكرين ورجال الأعمال والأطر الإدارية والأحزاب والمنظمات السياسية والهيئات المدنية، ثقافية وحقوقية، وغيرها من القنوات التي تيسر الوصول إلى الشعوب والمجتمعات وتساهم في اقناعها عبر مقاربات تكون رصينة لملف القضية الوطنية، تتسم بالنجاعة والدقة في عملية التواصل والتبليغ والإقناع؟ أفلا تعد السينما آلية من آليات ذلك؟

فما الغاية من إنتاج أفلام سينمائية حول القضية الوطنية؟ هل تندرج في معركة التوضيح والإقناع بعدالة وحدتنا الترابية، أم أن المراد منها التعبئة والتحميس لعموم الشعب المغربي أم ربطه بماضيه وتاريخه وذاكرته؟ في كلا الحالتين، سواء تعلق الامر بالفيلم الوثائقي أو الروائي، فالمسألة ليست سهلة من حيث توثيق التاريخ، وتجهيز الملابس والديكور وإعداد الموسيقى، واعتماد صوغ سردي وبناء درامي محكم يقوم على رؤية إخراجية وجمالية تشد المشاهد وتمنحه سحر الفرجة، التي تجعل الفيلم يتخطى المحلية نحو أفق عالمي، يمتع ويقنع ويبلغ، وينفذ إلى قلوب الجمهور من مختلف الشعوب والمجتمعات، عبر لغة سينمائية عالمية.

إن السينما أداة فعالة ضمن آليات الدفاع عن وحدتنا الترابية، أولا، باعتبارها شيئا مرئيا، وثانيا لقدرتها على التفاعل مع جميع أصناف البشر بغض النظر عن لغاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والجغرافية، فالسينما تلعب دورا في تغيير وتوجيه المجتمعات بطريقة إيجابية، شريطة أن تكون القصص التي نود عرضها على الناس قادرة على أن تهز نفوسهم وتدفعهم لخوض نقاشات جادة، الأفلام قادرة على تغيير منظور الناس للقضايا المعروضة عليهم، وتدفع الشباب لبناء تفكير نقدي كما تفتح عقولهم على العالم، وبالتالي علينا أخذ الفيلم ورسالته إلى القلب، إنه سحر الفرجة، وما لم يكن الفيلم قادرا على تقديم المعرفة في قالب من المتعة الفنية فإن مصيره هو الفشل، وهذا حال فيلم “المسيرة” الذي لم يرق إلى حدث المسيرة الخضراء التي مثلت فعلا استراتيجياـ وشكلت انقلابا تاريخيا على الاستعمار.

فيلم “المسيرة”، كان ضعيفا وباهتا لا يرقى إلى حجم حدث اتسم بطابع ملحمي وتاريخي غني بالدلالات، حتى وإن كان أصحابه يراهنون على مخرج شاب لم يعش حدث المسيرة وكان مطالبا أن يعكس رؤيته الخاصة للحدث بهدف تكريس قيم المواطنة لدى الشباب، وهو رهان جيد، غير أن ذلك لم يكن ليعفي واضعي التصور من البحث والاستقصاء والتنقيب عن قصص مثيرة واستثنائية من خلال شخصيات ومواطنين ومواطنات عشن وعاشوا تلك التجربة، مع إغنائها بعناصر تخييلة وتشخيصية لغوية محملة بأبعاد رمزية ودلالية تستمر في إبراز السلوكات وتضيء في الآن نفسه جوانب متعددة من المسيرة الخضراء، وبما يضمن المتعة وتنظيم بنية السرد وتناميه عبر الحوار ووصف الكاميرا، وبما أن كتابة السيناريو طبخت على عجل فإن البناء الدرامي جاء فاقدا للمصداقية، أبطال الفيلم كانت مجرد شخوص هلامية وإن كان كل منها يحمل قصته، فإن هاته القصص غابت عنها الجاذبية لاتسامها بالبساطة، حيث كان الرهان هو إبراز تعلقها بالمثل الوطنية عوض البحث في طريقة صوغ نسق متماسك للشخصيات يعبر عن قيمها من خلال كلامها وأفعالها بعمق نجعل المتفرج يقتنع بها وبصدقية أداءها، وينسى أنه أمام ممثلين كبار في أردئ أداء لهم، مع أنهم لا يتحملون المسؤولية، لأن السيناريو والحوار هو من يحدد منطق أفعالهم الذي يعطي للبناء الدرامي دفقه ومجراه، فرشيد الوالي الذي يجسد شخصية عسكرية، كانت مهمته أن لا يفارق ظل سيدة حامل أبت إلا أن تشارك في حدث المسيرة رغم أن وضعها لا يسمح، فما أن عرف أنها التحقت بالمتطوعين حتى سخر لها سيارة إسعاف إبان الرحلة، تلك السيارة التي كانت معطوبة بحوزة ميكانيكي، قال عنها هذا الأخير، إنها تتطلب على الأقل 15 يوما من أجل الإصلاح فإذا بها ستصبح جاهزة في رمشة عين، وسيصبح السائق بوصية من رشيد الوالي ملازما للسيدة، وحين يشتد عليها المخاض يذهب هذا المسؤول الذي هو رشيد الوالي بنفسه للبحث عن الطبيب، طبيب واحد بالمخيم لا يوجد غيره إلى آخر القصة بغض النظر عن سذاجتها، فكيف يعقل أن يختزل دور القوات المسلحة الملكية في تدبير شأن بسيط ويختزل دورها في شخص واحـد، ألا يعد هذا تقزيما لأدوارها على مستوى التنظيم واللوجستيك والإطعام وغيره، وكيف يعقل أن يخلوا مخيما من الأطباء والممرضين فهل كان هذا هو واقع الحال ؟

نموذج ينطبق على باقي الأدوار الرئيسية للفيلم، ويكفي استحضار شخصية الصحافي، التي لم يكن لها معنى ولا إضافة للفيلم، فهي لم تعكس ولو جزءا يسيرا من كواليس الصحافة والإعلام التي قامت بتغطية حدث المسيرة الخضراء. من الأفضل أن نقول تبعا لقول قائل، انتهى الكلام.

كان حري ومن باب الانصاف، وبمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، وفي إطار التنوع، أن تبث الشركة الوطنية فيلم “سأكتب اسمك على الرمال”، للمخرج الراحل عبد الله المصباحي، الذي اقتنته منذ سنوات خلت ولم يجد طريقه إلى البث إلى يوم الناس هذا، وكان الراحل قد أنتجه بإمكانياته الخاصة حين كان مقيما بمصر، وأسند أدواره الرئيسية إلى الممثل عزت العلايلي والفنانة المغربية سميرة سعيد التي تقاسمت معه البطولة والنجمة الراحلة أمينة رزق، وقد عرف الفيلم رواجا محترما بالقاعات السينمائية المصرية، وحضي بمتابعة إعلامية جيدة.

ورغم أن الراحل أنجز نسخة مغربية بعنوان “أرض التحدي” إلا أن الفيلم لم ير النور بالمغرب، في الوقت الذي تم عرضه غير ما مرة في التلفزيون المصري.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

الساحة الفنية المغربية تفقد رائدا من روادها بوفاة مصطفى الزعري

استهل مساره الفني سنة 1963 بمسرحية النواقسية مع الراحلين عبد القادر البدوي ومصطفى الداسكوين الذي …