حب على ربابة فقدان

“حب على ربابة فقدان”.. ديوان جديد لسعاد بازي المرابط

بيت الفن

عن دار الوطن للنشر بالرباط، صدرت للشاعرة المغربية سعاد بازي المرابط، أخيرا، المجموعة الشعرية الثالثة “حب على ربابة فقدان”، بعد مجموعتين سابقتين هما “تأشيرة باب الحياة” و”ثلاثة أرباع قلب”.

ويقع الديوان الصادر في 145 صفحة، ويضم 69 قصيدة تتنوع عوالمها وإن اكتست في مجملها طابعا روحانيا وجدانيا، من خلاصة التأمل في الشرط الوجودي الإنساني.

ويتحدث الناقد الميلودي الوريدي في تقديمه لديوان الشاعرة سعاد البازي عن اللحظة الشعرية بوصفها تلك التي يكون فيها الشاعر قادرا على الجمع بين الأشياء التي تبدو متناقضة في الواقع، على أساس أنه قادر بخياله على إدراك العلاقات الجديدة بين الظواهر، واستجلابها للتربع داخل قصيدته في نسق منسجم ومتوافق مع رؤيته الشعرية.

ويرى تمثيلا لهذه اللحظة في قصيدة “من نفق الوهم عدت” التي يسمها بأنها “لحظة شعرية سامية، هدأ فيها عقل الشاعرة، واعتمل انفعالها لتصبح لحظتها الشعرية تلك متجاوزة لمجرد الوعي بالتناقض الوجداني بين الحياة والموت إلى الانزراع الشامل إيمانا وتمثلا في صلب هذين المتضادين، فتصبح اللحظة الشعرية هي نفسها تناقض وجداني مثير، نشط ودينامي.. تنتزع عبرها الشاعرة من الموت والحياة، ذلك التمثل العرفاني المألوف عقلا فتصبح الحياة لدى الشاعرة جانية ويصبح الموت بريئا…”.

ويقول الناقد في تقديمه “كلما أمعنت في قراءة ديوان (حلم على ربابة فقدان) للشاعرة سعاد بازي، صرت أبحث في المقابل عن النثر في القصيدة الشعرية، لما تمنحه قصائد الديوان من شعرية تسمو بالألفاظ وتتسامى بالدلالات في سعيها إلى إعادة ترتيب الوجود الذاتي/الكوني … وهذا هو ه م الشعر والشعراء في كل العصور”.

وخلص إلى القول إن الشعر عند سعاد بازي ما هو إلا “إطفاء لخيبات الكلمات في ألفتها واعتيادها، أو هو تقليم لأظافر المعتاد، لنفض الغبار عن لوحات مكرورة حد الركود، أو هو حقنة للدهشة والإدهاش وخف للصبر ينتعله الشاعر قصد الاستواء في حمى القصيد …”.

أما عن حافز القصيدة وباعث تقاسمها مع القارئ، فتقول الشاعرة “كنت أنتظر أن تنضج فاكهة قصائدي. أن تصبح شهية المعاني على مائدة القارئ …كنت أنفض الأفكار المسنة عن قميص اللغة وأغرس بثراها حروفا أجلت انبعاثها من رماد العناد، إلى أن قيل لي: يليق بحرفك الدلال إن تثنى. إلى أن قيل لي: بيدك بندقية تصيد الجمال. فقررت أن أبرئ ذمتي من انهمارات بارقة … فأنا لن أعيش وفي ذمتي إبداع …”.

وفي قراءته للديوان يقول الناقد المغربي بوبكر الحيحي (تعرف الحركة الشعرية النسائية بمدينة تطوان ثراء وفورة يثيران الإعجاب، لكن قلما نجد صدى لهذه الإبداعات النسائية في الكتابات النقدية. ولتقريب القارئ من هؤلاء الشاعرات اخترت سعاد بازي المرابط، التي اقتنيت ديوانها الأخير “حب على ربابة فقدان” ومنه اخترت قصيدة “نايات” لتقريبها من القراء).

تقول الشاعرة في قصيدة “نايات”

بيدي نايات الكلام،

أهمس لها بكلمات

يندهش لها القصب

كلما مرت بالسماء

أحزان طائشة،

كلما بدت الصحيفة

مثقلة بالهزائم

أطويها …

أصدها …

لا أدونها.

أطلق التردد ثلاثا

وأحلق…

وأتذكر أن بيدي نايات الكلام

أهمس لها بكلمات

تدهش القصب”.

في قراءته للعنوان “نايات” تساءل الحيحي هل النايات مجرد آلات موسيقية أم أنها تتضمن أشياء تتجاوز سطح الكلمة؟ الناي كتسمية يتجاوز نفسه ويحيل على الموسيقى والطرب. أما بصيغة الجمع فالإحالة على الموسيقى تغدو مكثفة وتغري القارئ باستكناه مضامين القصيدة قصد استنباط محتواها، بارتباط بالإحالة إلى العنوان الذي يصبح بوصلة القارئ في إبحاره عبر القصيدة. إن اختيار “نايات” كعنوان للقصيدة الأولى من الديوان يطرح عدة احتمالات. فما علة اختياره من طرف سعاد المرابط؟ لن أجيب عنهذا التساؤل إلا بعد قراءة النص الشعري لكن قبل ذلك لنبق في العنوان.

“نايات” جمع مؤنث سالم وهو في الأصل مفرد مذكر لكن عند الجمع أخذ صفة المؤنث وكأن الشاعرة لا تقبل رؤية العالم إلا بصيغة المؤنث.

عنوان نكرة مؤلف من كلمة واحدة تخلى عن أية إضافة، وكأن الشاعرة تنأى بنفسها عن الزيادة فاسحة المجال لخيال القارئ، وهو بهذا عنوان يشرع باب المعنى على كل الاحتمالات. شاعرية العنوان تكمن في قصره أيضا لأن القارئ يجد نفسه مجبرا للجوء لقرائن فوق لغوية علها تسعفه في استجلاء المضمون. لكن قراءة النص الشعري تضفي عليها دلالات إيجابية. فالذات الشاعرة تلجأ للنايات كلما مرت بالسماء أحزان طائشة، كلما تاهت القصائد عند عتبة الفرح، حيث تتذكر أن بيدها نايات الكلام الباعث على الفرح.

يتبادر إلى الذهن التفسير الذي يعطيه جلال الدين الرومي للناي، كونه يرمز للروح التي تتألم بسبب إبعادها عن المحيط الإلهي. ويحيل الناي أيضا إلى الروح المعذبة والتواقة إلى الانعتاق من أسر الجسد لها. فالناي له ارتباط بالبوح وإخراج الزفرات الإنسانية. الناي تعبير عن مواجهة لحظات الوحدة والعزلة. هكذا نجد الراعي لكي يسلي نفسه يعزف الناي، وهو بهذا يتحدى شساعة الفضاء وشموخ الجبال لأنه يرسل صوتا يتجاوز قمم الجبال ويملأ الفضاء. وقياسا على ما سبق هل تواجه الشاعرة “الأحزان الطائشة” و”الصحيفة المثقلة بالهزائم” بعزف النايات؟ العنوان جاء بصيغة الجمع وهو يفيد إذن الكثرة ولربما التنوع. حضور الناي بصيغة الجمع في القصيدة له ما يبرره ما دامت الأحزان والهزائم واردة بصيغة الجمع.

“نايات”هو عنوان مهيمن لا يحصر نفسه داخل العنوان، ولكنه يتعداه فيمتد ليطال حتى عنوان الديوان “حب على ربابة فقدان”، فصلته وثيقة بالربابة وهي آلة تصدر صوتا شجيا قريبا من الناي على مستوى استنفاد الأحاسيس الداخلية. وهو أيضا آلة موسيقية رئيسية في الموسيقى الأندلسية (ازدادت الشاعرة ولازالت تقطن بمدينة تطوان، من أهم المدن المغربية على مستوى هذا الطرب). تلتقي الربابة مع الناي، أيضا، في الأصل البدوي للآلة.

عندما نقرأ القصيدة نجد علاقة عضوية بينها وبين العنوان، حيث إن هذا الأخير يتولد من القصيدة ويحتفظ بشاعريته لأن العناوين في الغالب ما تنزاح عن الوضع الهيامي للقصيدة لتزج بنفسها في حالة من التعقل الذي يفرض على القصيدة عنوانا يلخصها.

القصيدة تتضمن ثنائية الإحباط والمواجهة، وهي ثنائية ليست مضمرة في النص الشعري بل هي ظاهرة. يتبدى الإحباط في القصيدة في إحساس الذات الشاعرة لكنه يواجه بعزيمة وإصرار وهذا يجرنا للحديث عن بنية التضاد عبر ثنائية معنوية هي من صميم الوجود الإنساني حيث التجاذب بين هذين القطبين. إن الأعماق الإنسانية تحوي الإحباط والتحدي وواقع المرأة الحالي يدفع بالشاعرة لتسليط الأضواء على هذه الحقيقة الإنسانية التي تهم حتى الرجل.

بل إن غياب المعينات المرتبطة بالمكان والزمان تنزع عن الخطاب مرجعيته. فالذات الشاعرة ترسل كلامها في المطلق وتريد له أن يكون خالدا ، وهذه أهم خاصيات النزعة الرومانسية في الشعر أي الغوص في عالم مطلق كله انفعالات وأحاسيس. وبالرغم من أن الذات الأنثوية معروفة بهشاشتها فهي أمام الكروب تكتسب هنا الصلابة ورباطة الجأش.

وللإحباط في القصيدة أسبابه:

“كلما مرت بالسماء

أحزان طائشة،

كلما بدت الصحيفة

مثقلة بالهزائم”

إن المصدر الحقيقي لأحزان الذات الشاعرة قد يكون الآخر لكن قد تكون الذات نفسها. ثم إن الأحزان التي تلوح في السماء ليست مقصودة بل طائشة (والشخص الطائش هو صاحب التصرفات الهوجاء الذي لا يحكم العقل تصرفاته). كلمة طائشة قد تحيل إلى عالم عبثي حيث يتجلى اللامعقول من لقاء الإنسان بالعالم. وبالتالي فإن مواجهة الإحباط هي رفض للاستكانة ولليأس وإشهار للصراع حتى يكتسب الوجود معنى.

أسباب الإحباط مردها روحي ونستفيد هذا من السماء وكذلك من الحضارة المعاصرة التي تشكل الصحيفة إحدى تجليات تأثيرها وآثارها. هكذا إذن تتلاحم الأحزان الذاتية بالأحزان الجماعية.

هل للصحيفة علاقة بالتنزيل حيث لكل منا صحيفته؟ إذا كان القصد كذلك فنحن أمام بعد تراجيدي لا يمكن للذات المكلومة أن تتجاوزه وبالتالي فمصيرها مأساوي.

عكس بعض القصائد الطافحة بالقتامة وكأن الحياة تختزل في هذا الجانب أتى النص الشعري لسعاد المرابط ،منشدا للتحدي الذي قد يقود للغد المشرق ضدا على جهامة الحاضر.

الذات الشاعرة تجد نفسها في مواجهة ليس فقط مشاكلها الشخصية بل أيضا في مواجهة مشاكل خارجية. إنه اصطدام مزدوج مع الذات ومع العالم الخارجي دافعه الرغبة في حياة خالية من المثبطات.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

النقد السينمائي الرصين وشبكات التواصل الاجتماعي

دعا خبراء سينمائيون، على هامش فعاليات الدورة الحادية والعشرين لمهرجان السينما الإفريقية بخريبكة...