كارلوس سيلدران

سيلدران يكتب رسالة اليوم العالمي للمسرح (2019)

المخرج الكوبي قال إن الركح موطن ومساحة شاسعة تغطي العالم

بيت الفن

في “يوم المسرح العالمي” الذي يصادف يوم 27 مارس من كل عام، تفتح المسارح أبوابها في 92 بلدا لاستقبال الجمهور من دون تذاكر، وتنظم المراكز الوطنية للمعهد الاحتفالات والندوات والعروض المسرحية، حيث تُلقى خلالها الرسالة العالمية للمسرح، التي تكتبها سنويا إحدى الشخصيات المرموقة في عالم المسرح، وتعقد ندوات ولقاءات مباشرة بين فناني المسرح ومحبيهم وأصدقائهم من الأوساط الثقافية والاجتماعية الأخرى.

وكتب رسالة اليوم العالمي للمسرح (2019)، مخرج وأستاذ المسرح في جامعة هافانا بكوبا كارلوس سيلدران، ونشرتها الهيئة العربية للمسرح على موقعها الرسمي، ومما جاء فيها:

“قبل معرفتي بالمسرح والتعرف إليه، كان أساتذة المسرح الذين هم أساتذتي موجودين هنا. كانوا قد بنوا إقامتهم ومناهجهم الشعرية على بقايا حياتهم الشخصية. الكثير منهم الآن غير معروفين أو لا يُستحضرون كثيرا في الذاكرة، كانوا يعملون في صمت وفي قاعات التدريبات المتواضعة داخل مسارح مزدحمة. بعد سنوات من العمل والإنجازات الرائعة راحت أسماؤهم تتوارى تدريجيا ثم اختفوا. عندما فهمت أن قدري هو اتباع خطواتهم، فهمت أيضا، أنني ورثت من تقليدهم الفريد والمدهش العيش الآن وفي الحاضر، دون أن آمل سوى في الوصول إلى تلك اللحظة الشفافة وغير القابلة للاستنساخ، لحظة اللقاء مع الآخر في ظل المسرح، لا يحمينا إلا صدق إيماءة وكلمة تعبّر عن الكثير. موطن مسرحي هو لحظات اللقاء مع الجمهور القادم إلى قاعاتنا، ليلة بعد ليلة، من الأحياء المختلفة بمدينتي لكي يرافقنا، ويتقاسم معنا بعض الساعات، بعض الدقائق.

من هذه اللحظات المنفردة تتكون حياتي، عندما أكف عن أن أكون أنا، عن أن أتألم لأجلي، وأولد من جديد وأنا مدرك ومستوعب لمفهوم المهنة المسرحية: أعيش الحقيقة المطلقة للحظة سريعة الزوال، عندما يصبح ما نقوله ونفعله تحت نور الأضواء الكاشفة حقيقيا، ويعكس أعمق الحنايا من أنسفنا وأكثرها شخصية. موطن مسرحي ومسرح الممثلين معي هو وطن منسوج من لحظات نتعرى فيها من كل أقنعتنا، من البلاغة، نتعرى ربما مما يمكن أن نكون نحن، ونمسك بأيدي بعضنا البعض في الظلام. التقليد المسرحي أفقي، لا يمكن لأحد أن يجزم بأن هناك مركزا عالميا للمسرح في أي مدينة كانت، أو في أي صرح متميز كان، المسرح كما عرفته ينتشر حسب جغرافيا غير مرئية، ويختلط مع حياة الذين يمارسونه. الفن المسرحي إيماءة توحد بين الناس. كل أساتذة المسرح يحملون معهم إلى قبورهم لحظاتهم التي يتجسد فيها الوضوح والجمال، والتي لا يمكن أن تعاد مرة أخرى.

كل واحد منهم يضمحل بالطريقة نفسها دون أي رد للاعتبار لحماية عطائهم و تخليدهم. أساتذة المسرح يعرفون كل هذا يقينا، لا يمكن لأي شكل من أشكال الاعتراف بالجميل أن يكون صالحا خارج هذا اليقين الذي هو أساس عملنا، خلق لحظات حقيقية، إبهام، قوة، حرية وسط هشاشة محفوفة بالمخاطر. لا شيء يبقى إذا استثنينا المعلومات والتسجيلات، من صور وفيديوهات، التي تحمل بين ثناياها فكرة باهتة عن منجزاتهم. فكل هذه التسجيلات تنقصها الردود والتفاعلات الصامتة لجمهور فهم أن تلك اللحظة لا يمكن أن تترجم، وألا يلتقي بها خارج ذاته. وإيجاد هذه الحقيقة التي يتقاسمها مع الآخر هي تجربة حياة، بل أكثر شفافية من الحياة نفسها لبعض الثواني.

لما فهمت أن المسرح في حد ذاته موطن ومساحة شاسعة تغطي العالم، نشأ في أعماق نفسي قرار، وهذا القرار في ذاته تحرر: لا تبتعد من المكان الذي أنت فيه، لا جدوى من الركض والتنقل. حيث ما كنت يكون الجمهور، يكون الرفقاء الذين تحتاجهم بجانبك. هناك خارج منزلك توجد الحقيقة اليومية المبهمة وغير القابلة للاختراق، اشتغل وفق هذا الجمود الواضح لتحقق أكبر رحلة على الإطلاق، تبدأ من جديد، من زمن المغارات: كن أنت المسافر غير القابل للتغيير، والذي لا يتوقف عن تسريع كثافة حقيقة عالمك وصلابته. تتجه رحلتك صوب اللحظة، الوقت والتقاء أشباهك، رحلتك تتجه صوبهم، صوب قلوبهم، صوب ذاتيتهم. سافر في داخلهم، في مشاعرهم، في ذكرياتهم التي توقظها وتجمعها. رحلتك مذهلة، لا أحد يمكن أن يعطيها حق قدرها أو يسكتها، ولا أحد يمكنه أن يقيس حجمها الصحيح. إنها رحلة في مخيلة شعبك، بذرة مغروسة في أبعد أرض موجودة: الوعي المدني، الأخلاقي والإنساني للمتفرجين عليك. وهكذا أبقى غير قابل للتغيير، دائما في بيتي مع أهلي في هدوء واضح أعمل ليل نهار، لأن لدي سر الانتشار والتوغل”.

يشار إلى أن يوم المسرح العالمي ظهر إثر مقترح قدمه رئيس المعهد الفنلندي للمسرح الناقد والشاعر والمخرج الراحل أرفي كيفيما (1904- 1984)، إلى منظمة اليونسكو في يونيو 1961، وجرى الاحتفال الأول به في 27 مارس 1962 في باريس تزامنا مع افتتاح مسرح الأمم، واتفق على أن يكون تقليدا سنويا يتمثل بأن تكتب إحدى الشخصيات المسرحية البارزة في العالم، بتكليف من المعهد الدولي للمسرح، رسالة دولية تترجم إلى أكثر من 20 لغة، وتُعمّم إلى جميع مسارح العالم لتُقرأ خلال الاحتفالات التي تُقام لهذه المناسبة، وتُنشر في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

وكان الكاتب الفرنسي جان كوكتو أول شخصية اختيرت لهذا الغرض في احتفال العام الأول بباريس. وتوالت على كتابتها، منذ ذلك العام، أكثر من خمسين شخصية مسرحية من مختلف دول العالم، منها أرثر ميلر، لورنس أوليفيه، بيتر بروك، بابلو نيرودا، موريس بيجارت، يوجين يونسكو، أدوارد ألبي، ميشيل فاتسلاف هافل، سعدالله ونوس، فتحية العسال، أريان منوشكين، سلطان القاسمي، روبير لوباج، أوغستو بوال، جيسيكا أ. كاهوا، كريستوف فارليكوفسكي، أناتولي فاسيليف، وإيزابيل هيوبرت.

في العام الماضي، غير المعهد الدولي للمسرح النهج الذي سار عليه، فاختار خمسة مسرحيين من مناطق اليونسكو الخمس (آسيا وأوروبا وإفريقيا والأميركتين) لكتابة الرسالة وقراءتها، وهم رام غوبال باجاج من الهند، ومن أوروبا البريطاني سيمون ماك بورني، مايا زبيب من لبنان (ممثلة عن العالم العربي)، ويري لايكنغ من ساحل العاج، وسابينا بيرمان من المكسيك، حيث كتب كل واحد منهم رسالة بهذه المناسبة، تزامنا مع الذكرى السنوية السبعين لتأسيس المعهد، تُرجمت إلى 50 لغة، وتُليت أمام الآلاف من المتفرجين.

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

عندما يغتال الوزير روح البحث العلمي في جامعات المغرب!

دعونا نأخذ الكلام من فم الأسد، وفي هذه الحالة من فم اللبؤة نفسها، إذ تقول: …