بموهبتها وجمال صوتها الفطري استطاعت إيدت بياف المغرب كما كان يحلو للوسط الفني مناداتها أن تؤسس مدرسة غنائية مغربية أصيلة مستقلة عن الشرق الذي قدم لها إغراءات كثيرة لاستقطابها لكنها اختارت بوعي وقناعة بلدها المغرب رافضة أن تصبح رقما ضمن قائمة الفنانات المهاجرات اللواتي سلكن الطريق السهل عبر الغناء بلسان مصري أو خليجي
بيت الفن
فقدت الساحة الغنائية المغربية ليلة السبت 8 مارس 2025 صوتا من أعظم أصواتها النسائية ويتعلق الأمر بالمطربة نعيمة سميح، التي ودعت الحياة عن عمر يناهز 72 سنة، وذلك بعد مسيرة فنية حافلة بالعطاء والإبداع، وصراع طويل مع المرض.
ورغم ابتعادها عن الساحة الفنية لفترات بسبب ظروفها الصحية، ظل اسمها محفورا في الذاكرة الفنية الوطنية والعربية، حيث استطاعت مطربة المغرب الأولى، أن تؤسس تجربة فنية مغربية صرفة باختيار كتاب كلمات أغانيها وملحنيها، وأن تأسر بصوتها الشجي الممزوج ببحة دافئة، قلوب الملايين من معجبيها، من المغاربة والعرب، الذين انبهروا بأغانيها، التي تغنت، بالربيع وأزهاره، والبحر ورجاله، والمغرب وجماله وانتصاراته، وأدخلت البهجة على الجميع البحارة، والفلاحين، والجيران، كما تغنت بانكساراتها بآهات نابعة من قلبها الكبير، الذي اتسع للجميع، رغم جروحه العميقة، التي كانت بلسما لكل جراح الدنيا.
الراحلة نعيمة سميح، استحقت لقب سيدة الطرب المغربي، لأنها أصرت على اقتحام عالم الفن، في فترة كان يصعب على المرأة الاقتراب منه، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، متحدية تقاليد المجتمع المحافظ، الذي نشأت فيه.
بموهبتها وجمال صوتها الفطري استطاعت “إيدت بياف” المغرب، كما يحلو للوسط الفني مناداتها، أن تؤسس مدرسة غنائية مغربية أصيلة مستقلة عن الشرق، الذي قدم لها إغراءات كثيرة لاستقطابها. واختارت بوعي وقناعة المكوث في بلدها المغرب، رافضة أن تصبح رقما ضمن قائمة الفنانات المهاجرات، اللواتي سلكن الطريق السهل عبر الغناء بلسان مصري أو خليجي.
رأت الرحلة نعيمة سميح النور، سنة 1953 ببوشنتوف بدرب السلطان أحد أقدم أحياء مدينة الدارالبيضاء، عشقت الغناء وعمرها لم يتجاوز 9 سنوات.
ظهرت نعيمة سميح أول مرة في برنامج “خميس الحظ”، الذي كان يقدمه الإعلامي محمد البوعناني، في ستينيات القرن الماضي، إلا أنها برزت بشكل مثير في برنامج “مواهب”، الذي كان يعده ويقدمه الراحل عبد النبي الجيراري، وهو برنامج مسابقات تخرجت منه معظم مطربات جيلها أمثال سميرة بنسعيد، وعزيزة جلال.
رحلة السفر الفني، التي قطعتها نعيمة شاقة جدا ومتعبة، بحيث صنعت اسمها الفني بإصرار على شق طريقها في درب الفن، في فترة كان من الصعب على المرأة أن تلج مجال الغناء.
ورغم انتمائها لعائلة تقليدية محافظة متحدرة من الجنوب المغربي وتحديدا من “اولاد بن السبع”، استطاعت نعيمة أن تقنع عائلتها وتدخل ميدان الغناء بالفطرة، وبموهبتها وجمال صوتها الذي وهبه الله إياه دون تكوين موسيقي سابق.
في ذلك الوقت كانت الأغنية المغربية في حاجة إلى أصوات نسائية، إذ لم تكن في الساحة، سوى أسماء قليلة نذكر منها عميدة الأغنية المغربية بهيجة إدريس، التي دفع بها الملحن الراحل محمد بنعبد السلام إلى الغناء، رفقة شقيقتها أمينة إدريس، وبعض المغنيات اللواتي لم يكملن مسارهن الفني.
كانت نعيمة سميح تتمتع بصوت قوي وإحساس مرهف، جعل العديد من الملحنين المغاربة المعروفين آنذاك يسعون إلى التعامل معها، خصوصا محمد بن عبد السلام، الذي تنبأ لها بمستقبل زاهر، واحتضنها فنيا ونقلها من مجرد موهبة شابة إلى فنانة معروفة، بعد أدائها أول أغنية خاصة بها بعنوان “نوارة” سنة 1969، ولحن لها في ما بعد “تفتح الورد” 1970، “الله عليها قصارة”، والبحارة” سنة 1973، وهي أول أغنية وطنية مغربية قوية تؤدى بصوت نسائي متميز، بعدما كانت جل الأغاني الوطنية رجالية مائة في المائة، كما كانت أول أغنية تصورها نعيمة للتلفزيون المغربي.
انطلقت مسيرة نعيمة الفنية، في سن 16، وزادت شهرتها من خلال اشتغالها مع شعراء وملحنين مغاربة كبار أمثال عبد الرحيم السقاط، الذي لحن لها سنة 1972 من كلمات الطاهر سباطة، رائعة “الخاتم”، وكانت بمثابة الانطلاقة الحقيقية لها، فقد حققت الأغنية نجاحا كبيرا، لتكامل عناصرها، (الصوت القوي ذو البحة المتميزة، واللحن الأصيل، والكلمات البسيطة المؤثرة، التي اعتمدت في كتابتها على أحداث واقعية).
خصها عبد الله عصامي، سنة 1974 من كلمات مصطفى بغداد أغنية “أحلى صورة” (قضيب الخيزران)، ثم لحن لها عبد القادر وهبي، سنة 1975 من كلمات علي الحداني “ياك أجرحي”، التي حققت لها شهرة واسعة وجعلت اسمها متداولا في كل الدول العربية.
في هذه الأغنية، توحدت نعيمة مع الكلمات واللحن حتى صارت “ياك اجرحي” عند نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أغنية كل النساء عموما، والجريحات خصوصا، اللواتي أقبلن عليها حفظا وتقليدا بشكل منقطع النظير، لدرجة أن العديد من المطربات العربيات لم يترددن في أدائها، بدءا من الراحلة ذكرى، التي غنتها في أحد برامج اكتشاف المواهب في تونس، وسجلتها، في ما بعد، بصوتها للتلفزيون الليبي وتحديدا سنة 1998، وكذلك غنتها أصالة نصري، ووردة الجزائرية، وعلية التونسية، وعزيزة جلال، ونادية مصطفى، وسميرة بنسعيد، ونوال الكويتية، وعتاب، وأسماء لمنور، وجنات، والقائمة طويلة.
ورغم أن “جريت أو جاريت” أغنية نسائية مائة في المائة، إلا أنها استهوت العديد من الأصوات الرجالية، أمثال الراحلين الشاب حسني، وطلال مداح، ومحمد البلوشي، وجورج وسوف، والعديد من الفنانين العرب، الذين لم يترددوا في أدائها في مختلف المناسبات.
وما تزال “جريت أو جاريت” مطلوبة من الجميع، ومحط أنظار كل المغنيات المبتدئات، اللواتي لا يترددن في أدائها بكل الصدق الفني الموروث عن نعيمة سميح، للبرهنة على تمكنهن من الغناء.
أغنية “جريت أوجريت” خولت لنعيمة سميح الغناء في “الأولمبيا” بباريس سنة 1976 في حفل حضره أزيد من أربعة آلاف متفرج، لتصبح سيدة الغناء المغربي، أصغر مغنية عربية، وأول مغنية مغربية، وثالث فنانة عربية تحيي حفلا في مسرح “الأولمبيا” الشهير، بعد أم كلثوم و فيروز، لتفتح لها أبواب المجد على مصراعيه.
هذه النجومية فتحت الطريق، أمام نجمة المغرب الأولى نحو السينما، إذ شاركت رفقة عدد من نجوم السينما العربية، سنة 1978 في فيلم “دنيا النغم”، الذي كتب له السيناريو وأخرجه، سمير الغصيني، وأدى أدوار البطولة فيه، إلى جانب نعيمة سميح، ممثلون مغاربة، ولبنانيون، وسوريون، ومصريون، أمثال الراحلة ناهد شريف، وعازف القيتار الشهير، عمر خورشيد، والمطرب المغربي عبدالهادي بلخياط، الذي أدى أغنيتي “أخصومة”، و”مش ضامن قلبك”، والفنان اللبناني وليد توفيق، وزياد مولوي، ونبيلة كرم…
وفي نهاية السعينيات من القرن المنصرم، لحن لها الراحل عبدو العمري باقة من الأغاني الخفيفة، التي شكلت ثورة على الأغاني التقليدية المتداولة، وواصلت الغناء من ألحان العديد من الرواد، حيث خصها عبد القادر الراشدي بأجمل الأغاني، واختارها عبد الوهاب الدكالي لأغنية “رحلة النصر”.
غنت نعيمة باللغة العربية الفصحى، بعض القصائد الناجحة، كـ”أطلال الحب”، التي لحنها الراحل المعطي البيضاوي، وكتب كلماتها الشاعر رشاد عبد المعطي، ورائعة “محراب الحب”، التي كتبها الشاعر محمد الخضير الريسوني، ولحنها الراحل أحمد البيضاوي، وكانت أول أغنية مغربية تصور بالألوان، كما كانت أول قصيدة عربية تؤديها مغنية مغربية، تنال إعجاب مبدع “أطلال” أم كلثوم الموسيقار الراحل رياض السنباطي، الذي لم يخف في أحد تصريحاته، أنه تمنى لو كان هو من لحنها.
غنت نعيمة سميح، أيضا، باللهجة الليبية، من ألحان عطية محمد، وكلمات نوري ضو، أغنية “غنيت لك ولك أغني”، وأغنية “هلي يا فرحة”، وغنت باللهجة الخليجية، لعدد من الملحنين القطريين والكويتيين منهم يوسف المهنا، كما غنت باللهجة العراقية، وكانت أغنية الراحل ناظم الغزالي “على جسر المسيب” من أحب الأغاني إلى قلبها، ورغم غنائها بكل هذه اللهجات العربية، إلا أن محبيها لا يرون في نعيمة إلا الأداء باللهجة المغربية، وهذا ما كان يسعدها كثيرا.
لم تستهوها عاصمة الفن العربي بالقاهرة، لإيمانها بإمكانية النجاح وتحقيق العالمية من وطنها الأصلي وباللهجة المغربية، دون اللجوء للهجرة. كما رفضت جنسيات عدد من البلدان العربية، تشبثا بمغربيتها، والتزاما بوطنيتها، لقد ظلت طيلة حياتها وفية لجذورها، ومثالا للفنانة المغربية الأصيلة، التي قاومت كل الإغراءات المادية، رغم الأزمات، التي عانتها، كانت تغني من أجل الغناء، لا من أجل الشهرة أو الكسب المادي، كما تقول، كانت كل أغانيها المفعمة بالأحاسيس بمثابة قطعة منها. إنها من الفنانات النادرات في العالم العربي، اللواتي يميزن بين الكلمات والألحان الجيدة من غيرها، التي لا تحمل جديدا، ولا يغنين سوى ما يقتنعن به، وفي هذا السياق تقول نعيمة سميح “لا يمكنني أن أغني من دون إحساس، لأنني احترم الجمهور المغربي، الذي يصعب إرضاؤه، إنه جمهور ذكي ينتبه للكلمة وللحن وللأداء، لذلك “أفضل أن أظهر بأغنية متكاملة فيها تناسق بين الكلمة واللحن، لأنني لست ملكا لنفسي كفنانة بل أنا ملك لجمهوي ووطني”.
خلال مسارها الفني الحافل، الذي امتد على مدى 50 سنة، حصلت الفنانة نعيمة سميح على العديد من الجوائز والأوسمة من المغرب، ومختلف الدول العربية، ولعل أهم وسام تعتز به هو وسام المكافأة الوطنية من درجة قائد، الذي سلمه إياها جلالة الملك محمد السادس سنة 2007.
ومثل كل النجوم، الذين تألقوا بشكل لافت، حملت نعيمة سميح، التي بدأت الغناء منذ سن 16، العديد من الألقاب المختلفة، منها “سيدة الطرب المغاربي”، وهو اللقب الذي أطلقه عليها جمهورها في كل الدول المغاربية (الجزائر تونس وليبيا)، حيث كانت تحيي كل سنة تقريبا، العديد من الحفلات في مختلف المناسبات، كما كان تأثيرها واضحا على معظم المطربين هناك. كما لقبت نعيمة سميح أيضا بـ”عميدة الأغنية المغربية”، لأنها صنعت اسمها الفني بإصرارها على الغناء متحدية تقاليد المجتمع المحافظ، وتربعت على عرش الأغنية المغربية وناضلت باستماتة من أجل التعريف بها ونشرها خارج حدود الوطن، رغم كل إغراءات الهجرة إلى عاصمة الفن العربي القاهرة.
ومن الألقاب الأخرى التي حملتها نعيمة سميح لقب “نجمة المغرب الأولى”، وهو اللقب الذي ظهر في جينريك الفيلم السينمائي “الدنيا نغم”، الذي أتاح الوقوف لأول مرة أمام فنانين كبار، كما كان هذا اللقب يلازمها في كل رحلاتها الفنية إلى المشرق العربي. كذلك حملت نعيمة لقب “إيديت بياف” المغربية، لرقة صوتها وقوته في اختراق الأحاسيس، وتمسكها بالجانب الإنساني في كل أغانيها، ورغم هذه الألقاب المختلفة، التي تعبر عن مدى حب الجماهير المغربية والعربية لنعيمة سميح، فإن هذه الفنانة الأصيلة تفضل كانت اسم نعيمة سميح فقط، ومن دون أي ألقاب أخرى.