سلاما على روحك الطيبة المتمردة يا شكري الجميل، وقد مرت كل هذه السنوات العجاف على رحيلك الأبدي.. كأنك رحلت عنا أمس…
عبد اللطيف بنيحيى
قبل رحيله مساء يوم 15 نونبر 2003 بأيام قليلة، وهو طريح الفراش بالمستشفى العسكري بالرباط، أخبرني بصوت واهن لم ألتقط منه سوى “أحسني مع هذا الألم الذي لم يعد جسدي يحتمله كأني أتلظى على صفيحة نار ملتهبة. الجحيم يا صديقي..”، ولم أستطع بالكاد كتمان ذلك الأسى القاسي الذي اختلط مع نبرات صوتي على خط الموبايل وأنا أتمنى له مزيدا من الصبر والتحمل والسكينة، حتى يعود إلى نهارات وليالي طنجة معشوقته التي أسرته وذهبت بلب فؤاده.
وقد تلقيت خبر رحيله من طرف أحد الزملاء بإذاعة طنجة، وسيارتنا البسيطة تشق بنا الطريق على مشارف القنيطرة في اتجاه الرباط، لحضور حفل توزيع الجوائز على الفائزين بمناسبة اليوم الوطني للصحافة والإعلام في أحد فنادق الرباط الفخمة، بينما كان أصدقاء شكري يتبادلون التعازي، ويرتبون طقوس جنازته و حمل نعشه ليوارى التراب في مقبرة مرشان، بحضور حشد من المسؤولين والكتاب والمثقفين والناس البسطاء الذين كان حزنهم أصدق وأعمق من أولئك الذين يمتلكون الباع الطويل في تنميق الكلام، وأذكر أن مواطنا إسبانيا من مواليد العرائش اسمه طوماس مايور كان من بين هؤلاء البسطاء الرائعين، حيث وجدته عند باب المقبرة قبل وصول موكب الجنازة شاحب الوجه دامع العينين، وقال لي بعربيته الدارجة الفصيحة ونحن نتبادل التعازي: ” شكري ما كاينشي بحالو.. والله، راجل قدّ الدنيا كان “.
عبر هذه السنوات الطويلة التي شارفت ثلاثة عقود من رفقة متمردة عرفت مدا وجزرا مع محمد شكري، لم أستخلص منها إلا ما لم أستطع استلهامه من مواقفه الصارمة ومبادئه الثابتة مع الحياة و الناس من مختلف الشرائح والسلاليم الاجتماعية، وكنت أغبطه على تلك الصراحة التي كان يتميز بها، والتي تجعلنا نحن الضعفاء في بعض المواقف نختار أسلوب المراوغة والمخاتلة لإرضاء الآخرين، بينما كان شكري لا يتورع من إعلان رأيه وموقفه الصريح حتى وهو في محفل ثقافي وطني أو دولي، كما فعل عندما كان برفقتنا الفنان التشكيلي الصامت الخليل غريب، داخل قاعة العروض والمحاضرات بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، وكان المتدخلون يتطارحون الرأي في موضوع الثقافة وحرية التعبير والديموقراطية، وفي لحظة سادَها الصمت داخل هذه القاعة المكيفة الأنيقة، انبرى محمد شكري واقفا وهو يقول بصوت مرتفع محتجا ومتهكما بمرارة: ” باراكا من الكذوب علينا.. فين هي هاد حرية التعبير والديموقراطية والخبز الحافي ديالي ممنوع ومعتقل..”، فما كان من حراس القاعة بإشارة من رئيس الجلسة إلا إخراج شكري من القاعة بعد أن سبقنا إلى الخروج الخليل غريب.
وأذكر أن من بين اللحظات التي كانت تجعل شكري يستشيط غضبا، كل حديث في موضوع الموت، مرة قلت له ونحن في لحظة انتشاء: ” يوم وفاتك سأبكيك يا شكري بأجمل مرثية..” فردَّ عليّ غاضبا على الإثر: ” مُت أنت قبلي وسأكتب عنك مجلدا ضخما..”.
سلاما على روحك الطيبة المتمردة يا شكري الجميل، وقد مرت كل هذه السنوات العجاف على رحيلك الأبدي.. كأنك رحلت عنا أمس. أو لعلك لم ترحل بل نحن الذين رحلنا..!