من عروض مهرجان قرطاج السينمائي
فيلم ينتصر للأمهات العازبات
تونس: عبد الإله الجوهري*
غصت جنبات مدينة الثقافة، خاصة قاعتها السينمائية الرسمية أوبيرا، التي تتوفر على 1400 مقعد، عن آخرها، بجموع السينمائيين، من ضيوف المهرجان، ومعهم جمهور تونسي غفير، أغلبه من الشباب، الجميع جاء لمشاهدة الفيلم المغربي “آدم” للمخرجة مريم التوزاني، فيلم سبقته سمعته وشهرته، خاصة بعد عروضه الناجحة في مهرجاني كان بفرنسا والجونة بمصر، وحصوله على التنويه والاعتراف من النقاد والصحافيين، اعتراف تأكد أكثر وجينيريك النهاية يتتالى والجمهور واقف يصفق لأكثر من عشر دقائق بدون انقطاع، رغم ما شاب العرض من مشاكل تقنية، تمثلت في عدم توافق “السطرجة” (الترجمة التحتية) مع الحوارات، حيث شوشت بشكل كبير، لكنها لم تأثر على سلاسة المشاهدة، نظرا لقوة الشريط تقنيا وفنيا، ونبوغ ممثليه في الأداء، أداء شد الجميع، وجعلهم يتوحدون مع قصتي ومصيري إمرأتين مختلفتين من حيث الخلفيات والمشاكل، لكن متشابهتين في مواجهة واقع مجتمعي بئيس لا يرحم.
لن أحكي قصة الشريط، التي شاهدنا مثلها في عشرات الأفلام العالمية، أساسا منها العربية، من بينها طبعا الأفلام المغربية، كان آخرها فيلم “صوفيا” لمخرجته مريم بن مبارك، الذي سجلنا وقت خروجه للقاعات ومشاركته في المهرجانات، سقوط صاحبته في تكرار ما لا يكرر، وصنع عالم مزيف من الكلشيهات والصور عن مجتمع يبدو أنها لم تفهممه جيدا، رغم الإحتفاء المبالغ فيه الذي حصل عليه، وجوائز هنا وهناك في بعض القواعد السينمائية والمهرجانات الدولية.
“آدم” جاء ليحكي معاناة شابة، لا نعرف خلفيات معاناتها أوأسباب تنقلها، مع بداية الشريط، تتجول بين الأزقة والدكاكين والدور بحثا عن شغل ومكان يأويها، مثلما لا نعرف ما الذي يجعل نظراتها تائهة تحمل حزنا دفينا، وملامح آسيانة غارقة في لجة الصمت والتوسل، صحيح أن لها بطن منتفخ يدل على حمل غير شرعي، حمل ولغاية النهاية لا نعرف من كان سببا فيه، فهي لا تذكر غسم رجل ما ولا تتهم أحدا، كما تقر في نهاية الشريط، بل وتصر على أنها وحدها تتحمل وزر ما كانت تحمل في أحشائها، فهي لم تجبر على ممارسة الجنس بالقوة، بل كانت ضحية حب خاطئ، ونشوة عابرة، وظروف غير ملائمة، في مجتمع يعتبر الحب ممارسة حرام.
كما يسجل لصالح الشريط، أنه لم يقصفنا طيلة مدة العرض بصور نمطية، ومقولات مكرورة عما يلحق المرأة عادة من أذى في المجتمعات المتخلفة، مثلما لم يتم ترديد كليشيهات بائتة، كما توظفها الأفلام التجارية الباحثة عن الحلول السهلة لإيجاد أجوبة غير مقنعة، بل تركتنا المخرجة نحيا التجربة، ونفكر معها في منزلقات الحياة، وقبل ذلك نعيش مع بطلتها “سامية” حياة غير عادية في مجتمع قاس، بحكم التقاليد وثقل الموروث الديني، وترديد كلام سوقي عن ما يصلح وما لا يصلح في الوجود، وفي الآن نفسه صورت لنا الوجه الآخر المشع بالأمل لشخوص، ورغم مشاكلهم الآنية والماضية، يحملون قلوبا مليئة بفعل الخير والتعاون، والإحساس بثقل الهم الإنساني، من هنا كان ذلك التواطئ الجميل بين البطلة “سامية” و”عبلة” التي آوتها وحمتها من التشرد ومخاطر الشارع. ورغم أن التواصل في البداية كان صعبا، إلا أنه تحقق رويدا رويدا، مع تقدم الأحداث واكتشاف كل واحدة منهما للأخرى،
فـ”عبلة” تحمل هما يثقل على الجبال، لكنها تعيش كما يجب أن تعيش كل امرأة مغربية حرة، تشتغل وتعيل ابنتها الوحيدة “وردة” في حل عن أي مساعدة خارجية، ورغم أن هناك من يحبها ويريدها زوجة، إلا أنها تصرعلى الوفاء لروح الزوج الراحل والعناية بفلذة كبدها كما يجب…
امرأتين وطفلة وحكاية عن مغرب اليوم، المغرب الذي تجد فيه المرأة الحامل، خارج مؤسسة الزواج، الكثير من ضنك الحياة وصعوبة مواجهة المطبات، مطبات يصعب ايجاد حلول لها وتجاوزها، إلا من خلال التشبث بالأمل، وتحدي الأعراف البالية، والثبات على الموقف في عدم البحث عن شماعة مجتمعية كيف ما كان نوعها.
مريم التوزاني وبعد تجربة الفيلم القصير، تنجح إلى حد بعيد، في فيلمها الروائي الطويل الأول “آدم”، في زرع مساحات من الفرجة الراقية، من خلال ضبط تقني قل نظيره في سينما المرأة المغربية، وبعد فني يشتغل على اللامرئي في الحياة اليومية لنساء متفردات بشخصياتهن وآلامهن وأحلامهن، وجمال فضائي رغم انغلاقه وفقره وقهره، لأنه جاء نابضا بالحياة، على الأقل من خلال البسمة التي تزرعها “وردة” داخل فضاء البيت، ورغم أن صاحبة البيت تدير الظهر لكل ما يمكن أن يزرع الفرح، وينثر الجمال، ويظهر المفاتن المسجونة وراء الملامح المتجهمة والملابس الفضفاضة والزينة الغائبة، مادام لم يعد الرجل، أي رجل ، يملأ عينها، أو يمكن ان يغذي روحها وعالمها، مثل ما كان يفعل زوجها الراحل.
بين الألم والأمل تنبجس لحظات مشعة بالفرح، حيث يسود غناء المطربة وردة، من خلال أغنية “بتونس بيك”، وموسيقى العيطة المضمخة بدلالات البهجة والترويح عن الذات الباحثة عن الحرية، والرجل الذي يطل بين الفينة والأخرى حاملا قلبا من ذهب، طامعا في حب “عبلة” وراغبا في الإرتباط بها، هذا قبل أن يأتي الوليد وتتعدد الأسئلة وتعيش الأم العازبة، ونحن معها كمتفرجين، لحظات قاسية من التردد، بين التخلص منه أو الإحتفاظ به..
إذا كان شريط “آدم” قد تفوق في أن يكون فيلما محايدا من حيث مقاربة قضية اجتماعية / دينية، وناجحا في أن يعرض أمامنا مأساة شابة مع حمل غير شرعي دون توجيه أصابع الاتهام لجهة ما، أو رفع شعارات الإدانة والتجريم في حق الرجل الذي يقف وراء الحمل، فإنني أحسست بغربة قاتلة وكاميرا المخرجة تخرج للشارع العام، حيث وجدت نفسي وكأنني أتابع فيلما أخرجته مخرجة غربية، وليس مريم التوزاني المغربية، حيث سيادة بعض الكليشيهات عن فضاءاتنا الخارجية، كليشهات الضجيج الذي لا ينتهي، والبشر الحامل لكل العاهات الجسدية والأخلاقية، والأماكن الغير موجودة إلا في الأفلام التجارية الغربية المسيئة لصورة مجتمعنا، خاصة محطة الحافلات التي صورت برؤية كولونيالية مستهلكة.
ورغم ما يمكن أن يسجل من ملاحظات ثانوية، فإنني أسجل بكثير من الإعجاب والحب الصادق والعشق السينمائي المتدفق بباكورة مريم التوزاني، لأنه فيلم يحمل هما وقضية حقيقية، دون تبجح أو بكاء أو اتهام لأحد أو استعراض للكليشيهات الفجة المستهلكة، فهو فيلم منتصر للأمهات العازبات، وكل النساء الباحثات عن الحرية، في مجتمعاتنا الشرقية، انتصار تحقق من خلال ممثلات استثنائيات ، خاصة منهن نسرين الراضي ولبنى أزبال، وتجذر عبر رؤية فنية واعية وذكاء قل نظيره في الأفلام السينمائية النسائية، أو كل تلك الأفلام التي تحاول الركوب على قضاياهن العادلة في مجتمعاتنا الذكورية العربية، وبالتالي فهو فيلم نسائي بامتياز.
خلاصة القول أن “آدم” رفع الراية السينمائية الوطنية خفاقة في مهرجان قرطاج السينمائي ووسط حشود سينمائية عالمية، وبالتالي تنمنى له تتويجا مستحقا يكرس مكانة وسمعة سينمانا المغربية.