شوقي الماجري

شوقي الماجري.. شاعر الكاميرا العربية

حكيم مرزوقي*

الدراما التلفزيونية تخسر حساسية سينمائية نادرة وفائقة الخصوصية مع رحيل المخرج التونسي شوقي الماجري.

فجيعة ألمّت بالأوساط الفنية والثقافية في تونس والعالم العربي، فلقد غيّب الموت، صبيحة الخميس، المخرج التونسي شوقي الماجري إثر نوبة قلبية عن عمر ناهز الـ58 عاما. وخسرت الدراما العربية واحدا من أهم دعائمها ومطوريها، ذلك أن الرجل كان يشتغل بحساسية سينمائية فائقة الخصوصية في نظرته الجمالية، بالإضافة إلى كونه يمثّل نموذجا متفرّدا للعمل العربي المشترك في الدراما التلفزيونية، وصاحب رؤية تتميّز بالشعرية والمعالجة غير التقليدية للمواضيع الراهنة.

“الموت ضرب من القتل”، عبارة المتنبي هذه، يتذكرها دائما صديقي المخرج التونسي شوقي الماجري، صاحب “دقيقة صمت” الذي عرض في رمضان الماضي، حين يفجع بوفاة قريب أو صديق. وكان آخر الغائبين من حياته منذ أسابيع، والدته الأمية البسيطة التي يقول عنها دائما بأنها مرجعيته الأولى، وصديقه غلادياتور السينما التونسية، وراهبها البشوش، نجيب عياد، الذي أنتج له “مملكة النمل”.. ويستعدّ الاثنان لعمل قادم، ولكن.. أليس الموت ضربا من القتل.

تعلّم شوقي الماجري من والدته في باب سويقة، أعرق أحياء مدينة تونس، وأكثرها صخبا واحتفاء بالحياة، كيف يروي بالصورة ما يحبه، وما يجب أن يقال. اعتبرها مرجعيته الأولى ووضعها في مراتب أساتذته الذين أخذ عنهم أثناء دراسته في المعهد الوطني للسينما والمسرح والتلفزيون‏ (لودز) ببولندا، من أمثال فويتشيخ هاس، والمخرج هنريك كلوبا، أما في الوثائقي، وفن تأريخ الإحساس فكانا المعلّمان فواديسواف فاشيليفسك، وكا جيميج كاراباش.

كان هذا بعد دراسته في المعهد الصادقي، العريق بمدينة تونس في ثمانينات القرن الماضي، وما رافق تلك الفترة من شغف بفنون السينما والمسرح ضمن نوادي الهواة التي التصقت بجيل كامل إلى حدّ الهوس، وأفرزت أسماء ميّزت تونس الآن، كبلد حماه وحصّنه اليسار الثقافي (وليس السياسي) من كل نزعات التطرف والسلفية.

عاد شوقي الماجري، إلى تونس بعد حصوله على درجة الماجستير في الفنون السينمائية من بولندا، رفض إغراءات البقاء والعمل مع أساطين سينمائية كبيرة هناك أملا في قول “الموال الذي في رأسه” ببلده، لكن اللوبي الذي كان يسيطر على قطاع السينما في تونس منعه من ذلك، ضمن فرز سياسي وثقافي ومناطقي مقيت، يسيطر عليه الفرانكفونيون، ويحتكرونه على حساب من تكوّن خارج تلك المنظومة الخاضعة لإملاءات وشروط إنتاجية، كان الماجري، ابن باب سويقة المتمرّد، لا يؤمن بها، ولا يحب العمل تحت جناحها.

دفع شوقي الثمن من ظروف عيشه، وصار عاطلا عن العمل في مقاهي تونس يشبه شخصيات أفلامه التي حلم بإنجازها. اكتفى بأفلام قصيرة كلما سنحت له الفرصة مثل “البريد ومفتاح الصول”.

جاءه البريد من دمشق، وانفتحت أبواب الفرج، فدعاه المخرج والممثل ومدير شركة شام للإنتاج التلفزيوني التي يمتلكها أبناء عبدالحليم خدام آنذاك، أيمن زيدان، وباقتراح من الممثل التونسي فتحي الهداوي، الذي سبقه إلى هناك.

تولّى شوقي الماجري إخراج الجزء الثاني من مسلسل “إخوة التراب” بعد الاستغناء عن نجدت أنزور، نجم تلك المرحلة في المسلسلات التي تبشّر بالصورة وحركة الكاميرا كبديل عن النسخ الكلاسيكية المعتمدة على السرد والحوارات.

النتيجة كانت مذهلة في الأوساط النقدية التي تثقّفت وتربّت على الثقافة السينمائية المتطوّرة، لكنها كانت مربكة لمدراء الإنتاج من الذين يحسبون المردود بساعات التصوير والإنجاز.

كان شوقي يصوّر وفق المدرسة البولونية في السينما، فيطيل النظر والتأمل خلف المونيتور، حرصا على نقاء الكادر وجماليته برفقة مدير تصويره الشهير أزفيتش، الذي رافقه في أعمال لاحقة، وشكل الرجلان ثنائيا صانعا للدهشة، ولكن بإيقاع “دب روسي”.

تململ الجهات الإنتاجية من طريقته في العمل، لم يدم طويلا أمام النتائج والجوائز التي حصل عليها. وأدرك الجميع أنهم إزاء مخرج استثنائي، شاعر من “أصحاب الحوليات” خلف الكاميرا، يقول صورته بصبر وأنّاة، ولكن بإتقان يبلغ الدهشة.

توالت العروض على هذا المخرج الشاب المتواضع الخجول في أعمال تلفزيونية كثيرة، لكنه كان يعشق السينما، ويعتبر التلفزيون -رغم جماهيريته- قدرا أحمق الخطى بالنسبة لشخص قادم من زخم حي “باب سويقة” ونوادي السينما المبعثرة في تونس.. وذاكرة أمه التي ما تنفك تتحدّث إليه في غياب أبيه صغيرا، عن أجداده من قبيلة “ماجر” الشهيرة بفرسانها وملاحمها.

يتحين شوقي كل فرصة تعرض عليه في السينما، حتى ولو كان فيها خاسرا على الصعيد المادي.. النقود لا تهم هذا الرجل المسكون بالفن السابع، بقدر ما يهمّه إنجاز فيلم يشفي غليله فيه، ذلك أنه كان يقول لي دائما معزيا نفسه “يكفي أن أغنم 10 دقائق من السينما الخالصة في ساعة تلفزيونية”.

حلم الماجري، أن يصنع شريطا عن جده الأول علي بن غذاهم، الذي ثار ضد الأتراك العثمانيين في تونس عام 1864 أيام حكم الصادق باي (الذي سميت باسمه المدرسة الصادقية).. أليس هذا من مفارقات التاريخ لدى هذا الرجل الذي تشبّع بأدب الروس من بوشكين إلى تشيخوف؟

حلم كذلك بأن ينجز عملا ملحميا عن سيرة القائد القرطاجي حنبعل.. وأحلام كثيرة أخرى همس لي بها في ساعات الصفاء، وطلب مني كتابتها، لكنني كنت كسولا، وكان الزمن مستعجلا، والموت قاتلا غير رحيم.

لدى شوقي الماجري في كل أعماله، ثيمة تتكرر، وكأنها قادمة من حلم أو كابوس.. إنها الحصان الجامح الذي يصهل ويقتحم بعض المشاهد دون مبرّر منطقي في ذهن المشاهد العادي.

تكرّر هذا في العديد من الأعمال مثل مسلسل “أسمهان” في حادثة الغرق، وغيره من الأعمال، ولو بإيماءات متفاوتة، تطل وتظهر، مثل”شهرزاد الحكاية الأخيرة” ثم “الطريق الوعر” و”الأمين والمأمون” و”الاجتياح” و”أبوجعفر المنصور”، وحتى “نابليون والمحروسة” عام 2012 ومسلسل “حلاوة روح”.

سنتوقّف عند عمل لشوقي الماجري، لعله يشي بطريقته في التفكير والإخراج، وهو مسلسل “هدوء نسبي” الذي يتحدّث عن الاجتياح الأميركي للعراق: شاهدنا “بهلول” آخر في عاصمة الرشيد.

شاهدنا الممثل عابد فهد، كنمر هوليوودي بامتياز، يطفئ الشمعة عند سقوط بغداد، وينظر إلى أسماك دجلة وهي تحتجّ احتضارا.. ثمّ يبحر في قصّة حب أخرى مع مصر عبر نيلّلي كريم التي صار يصعب علينا تخيّلها أمام عدسة أخرى.

شاهدت صديقي جوّاد الشكرجي وهو يرثي بغداد بعينيه وبصمته المسالم. شاهدت نيلّلي كريم وهي تستحمّ بدموعها تحت المياه، شاهدت باسم قهّار وهو يعزف شهقة القصف والاحتجاج. كيف لي أن أنسى مشهد الضابط الذي “خرطش” سلاحه أثناء الاجتياح، نظر إلى صورة الحاكم ثمّ لاذ بالفرار.

فعل شوقي الماجري، بكاميرته ما عجزت عنه لقاءات القمّة.. لقد جمع العرب في شاشة واحدة.

رحل شاعر الكاميرا العربية، ونعاه أقرب رفاقه وأصدقائه المخرج السوري ثائر موسى بقوله “رحلة عمر جمعتنا منذ المعهد العالي للسينما في بولندا، رحلة أبى القدر الأعمى إلاّ أن يضع نهاية لها في وقت كنت سأطلب من شوقي أن يخرج عملا لنا في الشركة التي أعمل فيها. السلام لروحك أيها الصديق الرائع الذي كثيرا ما أفرحتني نجاحاته، واليوم ينخلع قلبي على غيابه المبكّر”.

كاتب تونسي*

عن بيت الفن

شاهد أيضاً

عن افتتاح مهرجان قرطاج السينمائي..

بعد دورتين ناجحتين، تحت إدارة النبيل الراحل نجيب عياد، يعود مهرجان قرطاج لتنظيم دورة...