أسوان: صفاء الأغا
محسنة توفيق ليست ممثلة مصرية وكفى، بل أيقونة عربية ورمزا من رموزها وسينماها الحقيقية، مسارها الإنساني والفني، المسرحي والتلفزي والسينمائي، ينضح باللحظات الأكثر وفاء للقيم الإبداعية، والانتصار للمرأة العربية المناضلة، المرأة الفنانة التي لا تتنازل قيد أنملة عن اختيار الأدوار التي تضيف الشيء الكثير لصور النساء المكافحات والحاضنات في دواخلهن كل ما هو جميل وأصيل.
يكفيها أن تكون هي من أدت دور بهية في الفيلم الأشهر “العصفور” للمخرج يوسف شاهين، لكي تفتخر بتميزها عن بنات جيلها، دور بشحنة عاطفية انسانية ووطنية قلما جسدتها فنانة من قبلها أو بعدها في السينما المصرية والعربية:
“يسبق كلامنا سلامنا يطوف ع السامعين معانا، عصفور محندق يزقزق كلام موزون وله معنى، عن أرض سمرا وقمرا وضفة و نهر ومراكب، ورفاق مسيرة عسيرة وصورة حشد ومواكب، في عيون صبية بهية عليها الكلمة والمعنى، مصر ي أمة يا بهية..”
هكذا كتب سيد الشعر العامي أحمد فؤاد نجم وغنى الشيخ إمام ببحة لا تخطؤها الأذن، وردد المصريون، خلال سنوات من الوقوف البطولي في وجه الأعداء، وخرجت تحت إيقاعها محسنة وسط الجموع التي رفضت أن تعترف بالهزيمة، خرجت في فيلم روائي تخييلي، مثلما خرجت في الواقع إلى جانب أبناء وطنها وهم يرددون حنحارب..حنحارب”…
منذ بداياتها الأولى في المسرح المدرسي، الذي دخلته صدفة، ولغاية آخر أدوارها التلفزية والسينمائية، التي أدتها بكل حب وقوة امرأة نال منها الزمن جسديا، لكنه لم ينل منها روحيا ولا إبداعيا، كانت محسنة ولازالت ترتدي رداء البراءة، وترفض ألقاب النجومية الخادعة، النجومية التي حولت الكثير من الفنانين إلى مجرد أشباح تبحث عن خداع فلاشات المصورين وتصفيقات الجمهور، الذي دجنت ذوقه ومسخت أحاسيسه الكثير من الجرائد والقنوات والمواقع الشعبوية. نعم ظلت كما كانت ولازالت على روحها الغامرة بالحب واحترام ذوق الناس، الذين وضعوا ثقتهم فيها وفي فنها، ولا عجب في ذلك بالنظر لثقافة هذه الفنانة و تاريخها الفكري والنضالي، يكفي أن نشير إلى مساهماتها النضالية “سياسيا” وفكريا، تحملها لكثير من العنت، حيث سجنت لأكثر من سنة ونصف، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، نظير مواقفها الرافضة ومشاركاتها في المظاهرات، قبل أن يعود ويكرمها بنفسه، بل ويمنحها وسام العلوم والفنون كعربون حب عن دورها في مسرحية “مأساة جميلة”، المسرحية التي لخصت عمق التضامن المصري مع الثورة الجزائرية ورمزها النسائي جميلة بوحيرد.
عودة بسيطة لمسار محسنة نكتشف أنها امرأة / فنانة من ذهب، أكثر من 80 عمل في التلفزيون والسينما، يمكن اعتبار بعض أدوارها التلفزيونية من أهم الأدوار النسائية في الدراما التلفزية، حيث يشير الصحافي محمد تهامي زكي في مقال له بموقع “اليوم السابع”، أنها تميزت عن بنات جيلها، بخمس أدوار شهيرة في مسلسلا وسلسلات، هي: ماما أنيسة البدري في “ليالي الحلمية، وعائشة في “الوسية” وأم السعد في “المرسى والبحار” وصفية زغلول في “أم كلثوم” وزينب في “حبنا الكبير”.
السينما لم تكن بمنأى عن خدمات هذه المبدعة الأصيلة، بعشرات الأدوار، حيث اشتغلت مع أشهر المخرجين المصريين، أساسا منهم، عاطف الطيب ومحمد خان وسمير سيف، لكن يوسف شاهين كان المخرج الأكثر استغلالا لموهبتها، استغلال جميل بأدوار متميزة في أفلام: “العصفور” المتحدث عنه أعلاه و”الإسكندرية ..ليه” و”وداعا بونابرت”.
لحظة تكريمها في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، في دورته الثالثة، وقفت بكل شموخ وإباء، رغم تقدمها في السن واستنادها على عكازها الذي لا يفارقها، حيث ألقت كلمة مؤثرة والدموع تغالبها قائلة “أدين بالفضل لكل المصريين الذين لولاهم ما أصبحت الممثلة محسنة توفيق، فطيلة حياتي وأنا أسير خلف قلبي وعقلي فيما يعرض علي من أعمال، واليوم اشكر كل القائمين على المهرجان، وكل الناس التي حضرت لدعمي”.
نعم، كانت لحظة فارقة و أسوان مدينة النهر والنور والآثار الفرعونية المتعددة، تحتضن تجربة محسنة وتخصص لها هذا التكريم الباذخ، تكريم من قلوب كل مبدعي السينما النسائية، ومن يؤازرها من رجال الخلق والإبداع، لسيدة الفن و المواقف النبيلة.