المسرحية مقتبسة من رواية “السقوط” آخر عمل للراحل ألبير كامو
بيت الفن
بعد النجاح الذي حققته على المستوى الوطني، قدمت الممثلة المغربية صوفيا هادي يومي الجمعة والسبت على خشبة مسرح المدينة في بيروت أول عرض لها خارج المغرب لمسرحية “السقوط”، التي ألفها المسرحي والمخرج المغربي نبيل لحلو.
في هذه المسرحية المقتبسة من رواية “السقوط” التي تعد آخر عمل للفيلسوف والكاتب الراحل ألبير كامو، قدمت صوفيا هادي لأزيد من ساعة أحد أقوى أدوارها، حيث أبانت عن موهبة كبيرة كممثلة.
لمدة ما يقارب الساعتين من دون استراحة، وقفت الممثلة المغربية القديرة صوفيا هادي وحدها أمام جمهور فضولي في بيروت لتقدم دورها لليلتين متتاليتين الخميس والجمعة، باحترافية عالية.
وحسب، ورقة أعدتها سوسن الأبطح عن المسرحية، أدت هادي دور القاضي جان باتيست كليمنس وهو يروي قصته بعد انتقاله من باريس إلى أمستردام مدينة تبدو له فيها الحياة أكثر عريا وأقل نفاقا من مدينته الأم.
من حانة “مكسيكو سيتي” في العاصمة الهولندية يبدأ العرض. طاولة مستديرة صغيرة كالتي نراها في البارات، مشجب للملابس والممثلة تتقمص دور رجل ببدلتها وربطة العنق والحكايات التي ترويها عن حياة مضت في محاولة لاستقراء عمر بعضه جميل وأغلبه يثير تساؤلات وجودية.
وفضل المخرج المغربي نبيل لحلو أن يبقي على روح النص كما هو، وألا يحمل شيئا من مستجدات حياتنا الآنية، تاركا إياه ليطلع من تلك الفترة الزمنية الحرجة في أوروبا، بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية، وبدء المراجعات الذاتية من فردية وجماعية.
القاضي جان باتيست كان رجلا يساعد المحتاج يحنو على الضرير ومعظم قضاياه تدور حول الأرامل والأيتام، لا يترك فرصة ليبدو إنسانيا حد الدهشة، لكنه يعلم في قرارة نفسه أن هذه الصورة ليست شيئا إلا لتسويق صورة تجعله محترما في عيون الناس.
قسمت الخشبة إلى جزء أمامي عليه الطاولة إلى اليسار ومقعد طويل يظهر لفترة قصيرة يمين الخشبة وستارة من النايلون الشفاف ترتفع وراءهما لتفصل الجزء الخلفي عن الأمامي، وتجعلنا نشعر أن ثمة عالما آخر في الوراء، حيث نرى القاضي وهو يخبرنا بحكاياته ينتقل إلى الخلف وكأنه يسير في شوارع طويلة وهو يكمل قصة حياته. خيار نبيل لحلو بأن يبقى أمينا لكامو، نصا وروحا وقصصا، أبقى العمل المسرحي باردا.
حتى حركة الممثلة بقيت تلاوينها محدودة جدا، كأن تدخل على دراجة تسير بها قليلا ثم تتوقف، أو تجلس على كرسي صغير وسط المسرح، لم يتخلل الكلام طرفة تغير الأجواء السردية المتهادية، لم تلجأ الممثلة إلى طبقات عالية وأخرى خفيضة أثناء القص. بقي مستوى الكلام في إيقاع واحد متدفق برصانة. بالتأكيد العمل نخبوي ويليق بمن يحبون أن يستمعوا إلى كلمات كامو، ويعشقون أسلوبه، ويسعدهم أن يروا الأدب يتحرك على خشبة، خاصة بأداء متزن ومحنك كالذي قدمته صوفيا هادي. لكن هذا ليس مزاجا لكثيرين، في زمن صار الصبر مطلبا عصيا، والإصغاء من دون إغراءات بصرية أمرا لا يستهوي سوى قلة.
تترك لنفسك العنان، مع الحكواتية التي لا بد أن تتساءل وأنت تتابعها كيف غيبت هذا النص الأدبي الجميل والطويل، وتمكنت من أن تؤدي مسترسلة الدور وحيدة من دون أن تلتقط أنفاسها، إلا للحظات حين تصدح الموسيقى قليلا في الأرجاء، أو عندما ترتشف قليلا من الماء من كوبها.
مع الثنائي نبيل لحلو وصوفيا هادي اللذين قررا أن يخوضا غمار تجربة صعبة وليس لها جمهور عريض، استمتع الجمهور اللبناني المحتفي بالضيفين المغربيين، بنص مركب، هو بالتأكيد من أكثر نصوص كامو التباسا، وانتقل مع الحكواتية المتقمصة القاضي إلى أمستردام حيث يعيش بعد اعتزاله العمل، ليتعرف معه ليس فقط على ماضيه بل على ما يواجهه هناك ويعيده دائما إلى صورته الذاتية في المرآة كحكاية المرأة التي رآها متشحة بالسواد على جسر “بونت رويال” ذات ليل وما أن تجاوزها حتى ألقت بنفسها في النهر وانتحرت، وأكمل طريقه وهو يعرف أنه ربما كان يمكنه بقليل من التضحية إنقاذها. تلك الضحكة التي يسمعها تلعلع خلفه وهو جالس في الحانة تعيده إلى فتاة النهر ولا يعرف إن كان هذا الصوت البهيج يخرج من أعماقه أم ممن سقطت في النهر ذات ليلة. هناك أيضا فترينات فتيات الليل في أمستردام التي تذكره أن الحياة هنا أكثر وضوحا في فسادها منها في باريس. حكاية الشاب على الدراجة الذي يقف في طريقه، وحين يطالبه بأن يفتح الطريق يسدد له صفعة على الوجه. الغوص ثم الغوص في الذات، بحثا عن أن تبقى هلامية وضبابية حتى للشخص نفسه، هي رحلة يذهب إليها متفرج مسرحية “السقوط” حتى يجد نفسه مستسلما على مقعده غائصا في وجه الممثلة منتظرا ما ستؤول إليه النهاية.