إبراهيم الملا
مازال كتاب «حياة الصورة وموتها» للمفكر الفرنسي ريجيس دوبري فاعلا في تأصيل القيمة «الوسائطية» للصورة التشخيصية في مقابل المحتوى المفاهيمي والتجريدي للغة، وما زالت نظرية دوبري الدالة على خطورة أن يصبح كل شيء مرئيا، هي نظرية متحققة وبعنف أحيانا في وسائل الإعلام المجيرة لصالح الأيديولوجيات التخريبية، القائمة على الإيهام والتزوير والمراوغة البصرية من أجل إثارة العاطفة الجمعية، وتحقيق مبتغيات ضالة وانتهازية للأرباب الكبار المتحكمين بهذه الوسائل الموجهة بدقة وحرفية، تماثل مهارة «القناص» عند اصطياده لضحاياه.
يقول دوبري في الكتاب: «حين يغدو كل شيء مرئيا، فلا شيء يغدو ذا قيمة، فتجاهل الاختلافات يتقوى مع اختزال الصالح في المرئي والمظهر، باعتباره مثالا يحمل في طياته جرثومة فتاكة تتمثل في التشابه، فتحظى كل المُثل المتميزة بعيانية اجتماعية قوية، وما ينتج عن ذلك هو أن لغة الأغنى، تصبح لغة كل الناس، وقانون الأقوى هو القاعدة المثلى».
مضيفا «إن عصر الشاشة حين يغدو مسيطرا أينما كنا، ستكون فضيلته الفساد، ومنطلقه الامتثالية، وأفقه عدمية مكتملة، لذا فإن غريزة البقاء لدى الجنس البشري مثلها مثل الرغبة البسيطة في تقصي اللذة لدى الفرد أو الأمم، سنضطر إن عاجلا أو آجلا، إلى الحد من الامتيازات التي تحظى بها الصورة ولكي يتم إيقاف الاختناق واليأس، سيتم إيلاء الأهمية للفضاءات الباطنية اللامرئية، وذلك عبر الشعر والقراءة والكتابة والافتراض والحلم».
ولعل «ما بعد الفرجة» من أهم فصول الكتاب في تحليله للصورة في الأزمنة الراهنة، حيث يشير دوبري إلى المرحلة التي وصلنا إليها، بوصفها ثورة تقنية وأخلاقية لا تشكل في آخر الأمر ذروة «مجتمع الفرجة» وإنما تعلن عن نهايته!
وحول الصدمة الأولى للصورة الفوتوغرافية يفترض دوبري وضع المقولة الأدبية الخالدة لـ«موت الفن» في إطار التاريخ المحايد للاختراعات ومواجهتها بمشكلة التوالد التكنولوجي، لأن التقنية تتقدم عبر محو بصماتها، وكلما أحكمت قبضتها، كلما وارت نفسها بنفسها، فبمقدار ما يزداد تحكمنا في الأشياء بمقدار ما تنقص قدرتنا في التحكم ولو بذكاء في هذا التحكم نفسه.
وفي مسيرة تطور الصورة من الثبات إلى الحركة ثم إلى الصور ثلاثية الأبعاد وصولا إلى الأنماط الحديثة المترجمة في الوسائط التفاعلية والحسية، التي تجعل المشاهد جزءا متداخلا في الصورة ذاتها، يسافر بنا الكتاب تاريخيا نحو الماضي البدائي والديني وصولا إلى سحر السينما وجاذبية التلفزيون، حيث يصف السينما مثلا إنها القمة اللامعة للمظهرية الاجتماعية، وأنه يمكن اعتبارها أداة للتحليل النفسي في القرن الحالي، بعد أن كان الفن التشكيلي هو التحليل النفسي للقرن التاسع عشر، مشيرا إلى أنه لو كان علينا عرض النسيج العقلي لعصرنا، للزمنا عرض فيلم لغريفيت وآخر لبرغمان وثالث لغودار، ومؤكدا أن للقرون كما للأيام غروبها الضروري، حيث إن العنصر السينمائي غدا «شيئا» ينتمي إلى الماضي، كما كان يحلو لهيجل أن يقول، مضيفا: «بالرغم من أننا سنظل نرى أفلاما رائعة لزمن طويل».
ويرى دوبري أن التلفزيون بما يمتلكه من قدرة على البث المباشر أصبح أداة مثالية لدى المتحكمين بالأصداء والإدراكات، وبالتالي أصبحوا هم أسياد التاريخ المباشر، وتصبح الشاشة هي مركز العالم، لأننا نكون جميعا سواسية أمام الحدث المبثوث، ونعيش تعادلا فضائيا وزمنيا لا سابق له، بيد أن ثمة إنسانا واحدا هو الأكثر مساواة من الآخرين، إنه ذلك الذي يتم الحدث عبره، أي مرسله، فبطل نهاية هذا القرن هو المنادي الصداح!
ويختم دوبري تحليلاته الرائعة بالإشارة إلى إشرافنا في عصر الشاشة على نهاية «مجتمع الفرجة» وإذا ما حدثت كارثة فإنها ستكون حاضرة، فبعد أن كنا أمام الصورة أصبحنا داخلها، وأن الوقوف ضد المحرمات القديمة المتعلقة بالأصالة والألغاز والروح سيكون عبارة عن شعائرية لها أهميتها، بيد أن الأفق قد يكون مخيبا للآمال، ففي مجال الممارسة، خاصة اليوم، تكمن مساوئ الصورة الجديدة مقارنة مع القديمة في الكلفة المفرطة التي تجعل من الإبداع رهينا بقوانين السوق، ورهينا بالصراع من أجل الخيال، لأنه صراع يعمل ضد مقولة: «كل شيء للصورة»، ولن نحافظ على حقنا في اللانهائي من دون الحد من حقوق المرئي في أن يقوم لوحده بإضفاء طابع الوثوقية على كل خطاب آخر، «فبمقدار ما نرى أقل بمقدار ما تنشط مخيلتنا أكثر» كما يقول جان جاك روسو.